[ ص: 216 ] هذا حديث لم يختلف ، عن مالك في إسناده فيما علمت ، ورواه كما رواه مالك سواء ، عن هشام بإسناده هذا جماعة من الأئمة الحفاظ ، منهم nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري ، nindex.php?page=showalam&ids=16008وابن عيينة ، والقطان وغيرهم ، وقد رواه معمر ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=170زينب بنت أبي سلمة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث هشام سواء ، وقد روى هذا المعنى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة كما روته nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة .
وفيه أن بعض الناس أدرى بموقع الحجة وتصرف القول من بعض ، قال أبو عبيد : معنى قوله : ألحن بحجته ، يعني : أفطن لها وأحدى بها . قال أبو عبيدة : اللحن - بفتح الحاء - الفطنة ، واللحن - بالجزم - الخطأ في القول .
وقد احتج بعض أصحابنا بهذا الحديث في رد حكم القاضي بعلمه لقوله : فأقضي له على نحو ما أسمع منه ولم يقل على نحو ما علمت منه ، قال : وإنما تعبدنا بالبينة والإقرار ، وهو المسموع الذي قال فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي على نحو ما أسمع قال : والعلة في القضاء بالبينة دون [ ص: 217 ] العلم التهمة ؛ لأنه يدعي ما لا يعلم إلا من جهته ، وقد أجمعوا أن القاضي لو قتل أخاه لعلمه بأنه قتل من لم يجب قتله من المسلمين لم يرثه ، وهذا لموضع التهمة ، وأجمعوا على أنه لا يقضي بعلمه في الحدود .
ومن حجة من ذهب إلى أن القاضي له أن يقضي بما علمه ؛ لأن البينة إنما تعلمه بما ليس عنده ليعلمه فيقضي به ، وقد تكون كاذبة وواهمة وعلمه بالشيء أوكد ، وقد أجمعوا على أن له أن يعدل لبعض العدول بعلمه ، فكذلك ما علم صحته ، وأجمعوا أيضا على أنه إذا علم أن ما شهد به الشهود على غير ما شهدوا به أنه ينفذ علمه في ذلك دون شهادتهم ولا يقضي .
[ ص: 218 ] واحتج بعضهم بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=showalam&ids=93سودة زوجه أن تحتجب من ابن وليدة زمعة لما علمه ورآه من شبهه بعتبة ، وقالوا : إنما يقضي بما يسمع فيما طريقه السمع من الإقرار أو البينة ، وفيما طريقه علمه قضى بعلمه ، ولهم في هذا الباب منازعات أكثرها تشغيب ، والسلف من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاء القاضي بعلمه على حسب اختلاف فقهاء الأمصار في ذلك .
ومما احتج به من ذهب إلى أن القاضي يقضي بعلمه مع ما قدمنا ذكره ما رويناه من طرق عن nindex.php?page=showalam&ids=16561عروة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد جميعا بمعنى واحد ، أن رجلا من بني مخزوم استعدى nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب على nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان بن حرب أنه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا من مكة ، فقال عمر : إني لأعلم الناس بذلك ، وربما لعبت أنا وأنت فيه ونحن غلمان ، فإذا قدمت مكة فائتني بأبي سفيان ، فلما قدم مكة أتاه المخزومي بأبي سفيان ، فقال له عمر : يا أبا سفيان ، انهض إلى موضع كذا ، فنهض ونظر عمر ، فقال : يا أبا سفيان خذ هذا الحجر من هاهنا فضعه هاهنا . فقال : والله لا أفعل ، فقال : والله لتفعلن ، فقال : لا أفعل . فعلاه عمر بالدرة وقال : خذه لا أم لك وضعه هاهنا ، فإنك ما علمت قديم الظلم ، فأخذ الحجر أبو سفيان ووضعه حيث قال عمر ، ثم إن عمر استقبل القبلة فقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت أبا سفيان على رأيه وأذللته لي بالإسلام ، قال : فاستقبل أبو سفيان القبلة وقال : اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الإسلام ما ذللت به لعمر .
ففي هذا الخبر قضى عمر بعلمه فيما قد علمه قبل ولايته ، وإلى هذا ذهب أبو يوسف ومحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور سواء عندهم علمه قبل أن يلي القضاء أو بعد ذلك ، في مصره كان أو في غير مصره ، له أن يقضي في ذلك [ ص: 219 ] كله عندهم بعلمه ؛ لأن يقينه في ذلك أكثر من شهادة الشهود الذين لا يقطع على غيب ما شهدوا به كما يقطع على صحة ما علموا .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة : ما علمه قبل أن يلي القضاء أو رآه في غير مصره لم يقض فيه بعلمه ، وما علمه بعد أن استقضى أو رآه بمصره قضى في ذلك بعلمه ولم يحتج في ذلك إلى غيره ، واتفق nindex.php?page=showalam&ids=11990أبو حنيفة وأصحابه أنه لا يقضي القاضي بعلمه في شيء من الحدود لا فيما علمه قبل ولا بعد ، ولا فيما رآه بمصره ولا بغير مصره .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور : حقوق الناس وحقوق الله سواء في ذلك ، والحدود وغيرها سواء في ذلك ، وجائز أن يقضي القاضي في ذلك كله بما علمه .
وقال مالك وأصحابه : لا يقضي القاضي في شيء من ذلك كله بما علمه ، حدا كان أو غير حد ، لا قبل ولايته ولا بعدها ، ولا يقضي إلا بالبينات والإقرار ، وبه قال nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل وأبو عبيد ، وهو قول شريح nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ، وفي قوله - عليه السلام - : فأقضي له على نحو ما أسمع منه دليل على إبطال القضاء بالظن والاستحسان وإيجاب القضاء بالظاهر ، ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في المتلاعنين بظاهر أمرهما وما ادعاه كل واحد منهما ونفاه ، فأحلفهما بأيمان اللعان ولم يلتفت إلى غير ذلك بل قال : إن جاءت به على كذا وكذا فهو للزوج ، وإن جاءت به على نعت كذا وكذا فهو للذي رميت به ، فجاءت به على النعت المكروه ، فلم يلتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك ، بل أمضى حكم الله فيهما بعد أن سمع منهما ولم يعرج على الممكن ، ولا أوجب بالشبهة حكما ، فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : إنما أقضي على نحو ما أسمع .
[ ص: 221 ] قال معمر ، عن قتادة في قوله : ( وتدلوا بها إلى الحكام ) قال : لا تدلي بمال أخيك إلى الحاكم وأنت تعلم أنك له ظالم ، فإن قضاءه لا يحل لك شيئا كان حراما عليك .
قال أبو عمر : وعلى هذه المعاني كلها المذكورة في هذا الحديث المستنبطة منه جرى مذهب مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=12251وأحمد بن حنبل وإسحاق nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور وداود وسائر الفقهاء ، كلهم قد جعل هذا الحديث أصلا في هذا الباب .
وجاء عن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=14954وأبي يوسف ، وروي ذلك عن nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي قبلهما في رجلين تعمدا الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته فقبل القاضي عدالتهما عنده وهما قد تعمدا الكذب في ذلك أو غلطا أو وهما ، ففرق القاضي بين الرجل وامرأته بشهادتهما ، ثم اعتدت المرأة ، أنه جائز لأحدهما أن يتزوجها وهو عالم أنه كاذب في شهادته وعالم بأن زوجها لم يطلقها ؛ لأن حكم الحاكم لما أحلها للأزواج كان الشهود وغيرهم في ذلك سواء ، وهذا إجماع أنها تحل للأزواج غير الشهود مع الاستدلال بفرقة المتلاعنين من غير طلاق يوقعه .
وقال مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي وسائر من سميناه من الفقهاء في هذا الباب : لا يحل لواحد من الشاهدين أن يتزوجها إذا علم أن زوجها لم يطلقها وأنه كاذب أو غالط في شهادته ، وهذا هو الصحيح من القول في هذه المسألة ، وبالله التوفيق .
وفي هذا الحديث أيضا من الفقه مع الأحكام التي قدمنا في حديث مالك الصلح على الإنكار خلاف قول nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، وفيه أن للشريكين أن يقتسما من غير حكم حاكم ، وأن الهبة تصح ، ولا يحتاج إلى قبض في الوقت لقوله : حقي لك ، ولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصح لك حتى تقبضه ، ومن هاهنا قال مالك : تصح المطالبة بالهبة قبل القبض لتقبض .