صفحة جزء
5161 - وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع ) . رواه البخاري .


5161 - ( وعنه ) أي : عن أبي هريرة ( قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعس ) : بكسر العين ويفتح أي : خاب وخسر ( عبد الدينار ) أي : الذي اختاره على رضا معبوده الجبار بأن يأخذه من غير حله ، وأن لا يصرفه في محله ، وكذا قوله : ( وعبد الدرهم ) : وهذان مثالان وخصا بالذكر ; لأنهما النقدان الحاصل بهما جميع مقاصد النفس والشيطان . ( وعبد الخميصة ) : وهي ثوب خز أو صوف معلم ، وخصت بالذكر لأن الغالب في لبسها الخيلاء والرعونة والرياء والسمعة ، ومن كمال ميل النفس إليها وعدم الطاقة على مفارقتها ، فكأنه عبد لها ، [ ص: 3229 ] وقيل : هي كساء أسود مربع له علمان أراد به محب كثرة الثياب النفيسة والحريص على التحمل فوق الطاقة ، تعس ذم التقيد بالزينة الظاهرة مما يتعلق بالثياب الجميلة ، لا سيما إذا كانت محرمة أو مكروهة ، وعدم التعلق بتخلية الباطن عن الأوصاف الدنية وتحليتها بالنعوت الرضية ، فإن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ، ومن رق ثوبه رق دينه ، ثم تطويل الأكمام وجر الأذيال حرام على وجه التكبر والخيلاء ومكروه إذا كان بخلافه ، وأما إذا كان اللبس على الوجه المباح في الشريعة ، فيختلف باختلاف النية في اختيار التكلف والتقشف ، فقد قال تعالى : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية . واختلف السادة الصوفية في أيهما أفضل ، ومختار الشاذلية ، والنقشبندية والبكرية التلبس بلباس الأغنياء كما عليه بعض السلف من الأولياء ، كما روي أن فرقدا السبخي دخل على الحسن وعليه كساء وعلى الحسن حلة فجعل يلمسها فقال له الحسن : ما لك تنظر إلى ثيابي ؟ ثيابي ثياب أهل الجنة وثيابك ثياب أهل النار . بلغني أن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية ، ثم قال الحسن : جعلوا الزهد في ثيابهم والكبر في صدورهم ، والذي يحلف به لأحدهم بكسائه أعظم كبرا من صاحب المطرف بمطرفه ، ثم الجملة لها خبر أو دعاء على من استعبده حب الدنيا ، واسترقه الهوى ، وأعرض عن عبودية المولى ، ولذا قال بعض العارفين :


أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر



ولم يقل صاحبها إيذانا بأن المذموم من يكون أسيرا لجمع المال بحيث لا يؤدي حق الملك المتعال . ( إن أعطي ) أي : هذا التعيس ( رضي ، وإن لم يعط سخط ) : بكسر الخاء أي : غضب ، والجملة بيان لشدة حرصه وانقلاب حاله ، كما أخبر الله تعالى عن حال المنافقين بقوله : ومنهم من يلمزك في الصدقات فان أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون الآية . وكما قال عز وجل : ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ( تعس ) : كرر للتأكيد ليعطف عليه للتشديد قوله : ( وانتكس ) أي : صار ذليلا ( وإذا شيك ) : بكسر أوله أي : دخل شوك في عضوه ( فلا انتقش ) : بصيغة المجهول ، وفي نسخة على بناء المعلوم أي : فلا يقدر على إخراجه ، أو لا يجد من يخرجه ، والمعنى أنه إذا وقع في البلاء لا يرحم عليه ، ولا يقدر على دفعه بنفسه أيضا ، هذا وفي النهاية : تعس إذا عثر وانكب لوجهه ، وقد تفتح العين وهو دعاء عليه بالخيبة لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر ، وإذا شيك أي : إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها ، وهو إخراجها بالمنقاش ، والخميصة : ثوب خز أو صوف معلم ، وقيل : لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة وكانت من لباس الناس قديما .

قال الطيبي رحمه الله : قيل خص العبد بالذكر ليؤذن بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها كالأسير الذي لا خلاص له عن أسره ، ولم يقل : مالك الدينار ولا جامع الدينار ; لأن المذموم من الدنيا الزيادة على قدر الحاجة لا قدر الحاجة . وقوله : إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، يؤذن إلى شدة حرصه في جمع الدنيا وطمعه فيما في أيدي الناس ، وفي قوله : " تعس وانتكس " صنعة لترديد مع الترقي أعاد تعس الذي هو الانكباب على الوجه ليضم معه الانتكاس الذي هو الانقلاب على الرأس ، ليترقى في الدعاء عليه من الأهون إلى الأغلظ ، ثم ترقى منه إلى قوله : " إذا شيك فلا انتقش " على معنى أنه إذا وقع في البلاء فلا يترحم عليه ، فإن من وقع في البلاء إذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه ، وتسلى بعض التسلي ، وهؤلاء بخلافه ، بل يريد غيظهم بفرح الأعداء وشماتتهم ، وإنما خص انتقاش الشوك بالذكر لأن الانتقاش أسهل ما يتصور من المعاونة لما أصابه مكروه ، فإن نفى ذلك الأهون فيكون ما فوق ذلك منفيا بالطريق الأولى . ( طوبى ) أي : حالة طيبة أو شجرة والجنة ( لعبد ) أي : [ ص: 3230 ] خالص لله تعالى ( آخذ ) : بصيغة الفاعل أي : ماسك ( بعنان فرسه ) : بكسر العين أي : بلجامه ( في سبيل الله ) أي : طريق الجهاد ( أشعث ) : بالنصب على أنه صفة عبد أو حال منه ، وقوله ( رأسه ) مرفوع على الفاعلية الأشعث وهو مغبر الرأس ، وفي نسخة برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة صفة عبد ، وقوله : ( مغبرة ) : بالنصب وفي نسخة بالرفع ، وفي أخرى بالجر على أنها صفة عبد ، وقوله : ( قدماه ) : فاعلها .

وقال الطيبي رحمه الله : أشعث ومغبرة حالان من الضمير في آخذ لاعتماده على الموصوف ، ويجوز أن يكونا حالين من العبد ; لأن موصوف ( إن كان ) أي : ذاك العبد ( في الحراسة ) : بكسر الحاء أي : حماية الجيش ومحافظتهم عن أن يتهجم عليهم عدوهم ( كان ) أي : كاملا ( في الحراسة ) : غير مقصر فيها بالنوم والغفلة ونحوهما ، والحراسة وإن كانت في اللغة أعم لكنها في العرف مختصة بمقدمة العسكر ، ولذا قال : ( وإن كان في الساقة ) أي : في مؤخرة الجيش ( كان في الساقة ) أي : كاملا في تلك الحالة أيضا بأن لا يخاف من الانقطاع ، ولا يهتم إلى السبق بل يلازم ما هو لأجله ، وقد تقرر في علم المعاني أن الشرط والجزاء إذا اتحدا يراد بالجزاء الكمال ، فالمعنى إن كان في الحراسة أو الساقة يبذل جهده فيها ، ولا يغفل عنها على وجه الكمال . قال التوربشتي رحمه الله : أراد بالحراسة حراسته من العدو أن يهجم عليهم ، وذلك يكون في مقدمة الجيش ، والساقة مؤخرة الجيش ، فالمعنى ائتماره لما أمر ، وإقامته حيث أقيم ، لا يفقد من مكانه بحال ، وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة ، وأكثر آفة ، الأول عند دخولهم دار الحرب ، والآخر عند خروجهم . ( إن استأذن ) أي : طلب الإذن في دخول محفل ، وفي نسخة : إذا استأذن ( لم يؤذن له ) أي : لعدم ماله وجاهه ( وإن شفع ) أي : لأحد ( لم يشفع ) : بتشديد الفاء المفتوحة أي : لم تقبل شفاعته ، وتوضيحه ما قيل أن فيه إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث يفنى بكليته في نفسه ، لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس ، بل يكون عند الله وجيها ، ولم يقبل الناس شفاعته ، وعند الله يكون شفيعا مشفعا . ( رواه البخاري ) : وروى الترمذي صدر الحديث بلفظ : " لعن عبد الدرهم " مختصرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية