5236 - ( عن سهل بن سعد قال : مر رجل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل عنده ) الظاهر أنه كان من الأغنياء فيكون في سؤاله وجوابه له تنبيه نبيه على فضل الفقراء ( جالس ) بالجر صفة وجاء وفي نسخة بالرفع على أنه فاعل الظرف ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر لمبتدأ محذوف هو ( " ما رأيك في هذا ؟ " ) أي : ما ظنك في حق هذا الرجل المار تظنه خيرا أم شرا ؟ ذكره ابن الملك ( فقال ) أي الذي عنده ( رجل ) أي هو أو هذا يعني المار ( من أشراف الناس ) أي : كبرائهم وعظمائهم ( هذا ) أي : هذا الرجل بعينه أو هذا الشخص بجنبه أي مثل هذا الرجل ( والله حري ) : على وزن فعيل وهو خبر هذا والقسم معترض بينهما أي جدير وحقيق ( إن خطب ) أي : طلب أن يتزوج امرأة ( أن ينكح ) : بصيغة المجهول أي : بأن يزوجه إياها أهلها ( وإن شفع ) أي : لأحد عند الحكام أو الرؤساء في جلب العطاء أو دفع البلاء ( أن يشفع ) : بصيغة المفعول مشددا أي : تقبل شفاعته .
( قال ) أي الراوي ( فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أي عن الجواب ولم يذكر ما تقتضيه المحاورة من الخطاب ( ثم مر رجل ) أي : آخر ( فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ) أي للرجل الذي عنده ( " ما رأيك في هذا ؟ " فقال يا رسول الله ! هذا رجل من فقراء المسلمين ، هذا حري ) ترك القسم لاحتمال التخلف وأما تأكيد الحكم له سابقا فللمبالغة في تحقيق الظن فيه ، والمعنى هذا لائق ( إن خطب أن لا ينكح وإن شفع أن لا يشفع وإن قال ) أي : لكلام ولو كان صدقا أو حقا ( أن لا يسمع ) : بصيغة المجهول ونائب الفاعل قوله ( لقوله ) والمعنى أن أحدا لا يسمع لكلامه ، ولا يلتفت إليه من غاية فقره وقلة نظام أمره .
ففي غرائب ما يحكى أن رجلا غريبا فقيرا رافق شخصا ملك بعيرا وحمله حملا ثقيلا فقال : ما حملك هذا وما حملك على هذا ؟ قال : عدل منه حب الطعام وعدل آخر مليء من البطحاء ليعتدل النظام قال الفقير له : لو [ ص: 3277 ] تركت البطحاء وقسمت الحب في العدلين متناصفين لخف حملك وركبت جملك ، فقال : بارك الله فيك لما صدر من فيك فأطاعه فيما بينه ، وركب على وجه عينه ، فسأله هل أنت بهذا العقل كنت في بلادك سلطانا ؟ فقال : لا فقال : فوزيرا فأميرا فتاجرا فرئيسا فصاحب إبل وصاحب خيل أو غنم أو زراعة ونحو ذلك ؟ فيقول : لا . فقال : أكنت في بلدك فقيرا على هذا الحال ، وحقيرا على هذا المنوال ؟ فقال : نعم . فقال : أنت شؤم ووجهك شؤم ، ومن يسمعك أيضا شؤم ، ونزل عن بعيره وأمر على تغييره من سوء تدبيره ، ومثل هذا مشاهد في العالم كثيرا . مثلا إذا كان العالم فقيرا والشيخ إذا كان حقيرا حيث لا يلتفت أحد إلى كلامه ، ولا يعظم على قدر مقامه بخلاف العالم ، والشيخ إذا كان مشهورا وعلم جاهه بين العوام منشورا ، فإنه يقبل قوله ، ويتبع فعله ولو كان في نفس الأمر ناقصا في علمه أو عمله ، والله ولي دينه وناصر نبيه ، ومن هذا القبيل قول أهل الجاهلية في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم لما كان تاركا للمال والجاه على ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وأرادوا بالقريتين مكة والطائف كأن كل أهل قرية قالوا هذه المقالة ، فلف الشر اعتمادا على معرفة تلك الحالة ، فقال تعالى ردا عليهم : أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا .
( فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : " هذا " ) أي : هذا الرجل : وحده وكذا أمثاله ( " خير من ملء الأرض مثل هذا " ) أي : مثل الرجل الأول ، ووجهه والله تعالى أعلم أن الفقير لصفاء قلبه أقرب إلى قبول أمر ربه ، والوصول إلى مرتبة حبه بخلاف الأغنياء الأغبياء ، فإن لهم الطغيان والاستغناء والتكبر والخيلاء ، وقد قال الله تعالى : سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وهذا أمر مشاهد ومرئي في تلامذة العلماء ومريدي الصلحاء والتابعين أولا للأنبياء ، بل السابقين إلى العبادات من الصلوات وغيرها حتى الحج الذي لم يجب إلا على الأغنياء ، فالفائزون به لا سيما على وجه الإخلاص المبرأ عن الأغراض الفاسدة والمكاسب الكاسدة إنما هم الفقراء ، هذا وقال شارح : مثل منصوب على التمييز في ملء الأرض ، ويؤيده قول الطيبي رحمه الله : وقع ملء الأرض فضلا عليه باعتبار مميزه ، وهو قوله : مثل هذا لأن البيان والمبين شيء واحد انتهى .
ويمكن أن يكون نصبه بنزع الخافض ، ويؤيده أنه وقع في بعض النسخ بالجر أي : من مثل هذا الرجل الأول ، لكن النسخ المصححة من نسخة السيد وغيرها على الأول فهو المعول ، ولا يغرك قول ابن حجر مثل هذا بكسر اللام ، ويجوز فتحها ، ثم المراد من الرجل الأول المعبر عنه بأنه من أشراف الناس واحد من أغنياء المؤمنين ، وإنما عبر عن الخاص بلفظ العام للمبالغة في تحصيل المرام ، فإن الغنى يغير الخواص والعوام ، ولا يتوهم أن المراد بالرجل الأول أحد من الكفار لعدم انتظام الكلام حينئذ في قوله عليه الصلاة والسلام " هذا خير " بمعنى أفضل منه إذ لا مفاضلة بين الكفار وأهل الإسلام ، لأنه لا خير في كفار الأنام ، حتى قال بعض العلماء الأعلام : إن من قال النصراني خير من اليهودي يخشى عليه الكفر إذ أثبت الخير فيمن لا خير فيهم وإنما لم يجز لكفره لأنه قد يقصد بالخير أنه أقرب إلى الحق ، ولذا قال تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى كما أنه قد يقصد بالخير مجرد زيادة الحسن ومنه قوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا لكن إيراد الحديث في هذا الباب يدل على أن ما ذكرناه هو الصواب ، وهو لا ينافي ما ذكره الغزالي : إن عذاب الكافر الفقير الدني أخف من الكافر الغني ، فإذا كان الفقير ينفع الكافر في النار فما ظنك بنفعه للأبرار في دار القرار ؟ ( متفق عليه ) .