قال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله يحب المتوكلين وقال : واصبر وما صبرك إلا بالله ، إن الله مع الصابرين جمع بينهما لتلازمهما وعدم انفكاكهما ، وقدم التوكل لأنه منتج الصبر ، وبه يحلو المر وينكشف الضر ، ومن توكل على الله كفاه . وقال بعضهم : التوكل على أحد هو أن يتخذه بمنزلة الوكيل القائم بأمره المتكفل بإصلاح حاله على قدره . وقال ابن الملك : المراد بالتوكل هو أن يتيقن أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله عليه من النفع والضر ، انتهى . والصبر على مراتب من حبس النفس عن المناهي وعن المشتهيات والملاهي ، وعلى تحمل المشقات في أداء العبادات ، وعلى تجرع المرارات عند حصول المصيبات ووصول البليات ، هذا وفي النهاية يقال : توكل بالأمر إذا ضمن القيام به ، ووكلت أمري إلى فلان أي : ألجأته إليه واعتمدت فيه عليه ، ووكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجزا عن القيام بأمر نفسه ، والوكيل هو القيم الكفيل بأرزاق العباد ، وحقيقته أنه مستقل بأمر الموكول إليه . وقال الراغب : الصبر الإمساك في ضيق . يقال : صبرت الدابة حبستها بلا علف ، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع ، أو عما يقتضيان حبسها عنه ، فالصبر لفظ عام ، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه ، فإن كان حبس النفس لمصيبة سمي صبرا لا غير ، ويضاده الجزع ، وإن كان في محاربة سمي شجاعة ويضاده الجبن ، وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر ويضاده الضجر ، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتمانا وضده الإفشاء ، وزاد في عين العلم : وفي فضول العيش زهد وضده الحرص ، وفي اليسير من الدنيا قناعة وضده الشره انتهى . والتوكل بلسان العارفين على ما قال nindex.php?page=showalam&ids=14479السري السقطي : هو الانخلاع من الحول والقوة بلا نزاع . وقال ابن مسروق : التوكل هو الاستسلام لجريان القضاء في الأحكام . وقال الجنيدي - رحمه الله - : التوكل أن يكون لله كما لم يكن فيكون الله له كما لم يزل ، ثم قيل الصبر على ثلاثة أنواع : صبر العوام وهو حبس النفس على ما يكره ، وصبر الخواص وهو تجرع المرارة من غير تعبس ، وصبر أخص الخواص وهو التلذذ بالبلاء ، وبه يصل إلى مرتبة الشكر وغاية الرضا بالقضاء ، وقد ورد : اعبد الله على الرضا فإن لم تستطع فالصبر على ما تكره خير كثير . وقال تعالى : فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا .
قال الطيبي - رحمه الله - : الجمع بين جملتي لا يسترقون ولا يتطيرون من الثنائي الذي يراد به الاستيعاب لقولهم : لا ينفع زيد ولا عمرو ، على معنى لا ينفع إنسان ما قال صاحب النهاية : هذا من صفة الأولياء المعرضين عن أسباب الدنيا وعوائقها الذين لا يلتفتون إلى شيء من علائقها ، وتلك درجة الخواص لا يبلغها غيرهم ، وأما العوام فرخص لهم في التداوي والمعالجات ، ومن صبر على البلاء وانتظر الفرج من الله سبحانه بالدعاء كان من جملة الخواص والأولياء ، ومن لم يصبر رخص له في الرقية والعلاج والدواء . ألا ترى أن الصديق لما تصدق بجميع ماله لم ينكر عليه - صلى الله تعالى عليه وسلم - علما منه بيقينه وصبره ، ولما أتاه الرجل بمثل بيضة الحمام من الذهب وقال : لا أملك غيره ، فضربه بحيث لو أصابه عقره وقال فيه ما قال .
قلت : الظاهر أن سبب غضبه - صلى الله تعالى عليه وسلم - لم يكن إتيانه بجميع ماله ، بل إفشاء سره وإظهار حاله بقوله : لا أملك غيره مع الإيماء إلى توهم السمعة والرياء ، والله تعالى أعلم .
وفي شرح مسلم للنووي - رحمه الله تعالى - قال المازري : احتج بعضهم به على أن التداوي مكروه ، ومعظم العلماء على خلاف ذلك ، واحتجوا بالأحاديث الواردة في منافع الأدوية ، وبأنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - تداوى ، وبأخبار عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن كثرة تداويه ، وبما علم من الاستشفاء برقياه ، فإذا ثبت هذا حمل الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها ، ولا يفوضون الأمر إلى الله تعالى .
قلت : لا يصح حمل الحديث المذكور على القول المسطور ، فإنه صريح في أنهم من كمل الأولياء ، وخلص الأصفياء ، فالصواب ما ذكره صاحب النهاية من أن الأولى في حق أهل الهداية إنما هو عدم تعاطي الأسباب غير العادية ، وإن كان جاز هذا للعوام وباب البداية ، ويحمل فعله عليه الصلاة والسلام في المعالجة بالأدوية على اختيار الرخصة رعاية لعامة الأمة ، أو على مرتبة جمع الجمع المشهور عند الصوفية من أن مشاهدة الأسباب ، وملاحظة صنائع رب الأرباب هو الأكمل والأفضل عند الكمل ، فتدبر وتأمل . ولعل الحديث مقتبس من أحد معنيين في قوله تعالى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب والله تعالى أعلم بالصواب . ( متفق عليه ) .