5381 - ( وعنه ) أي : عن حذيفة ( قال : حدثنا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - حديثين ) ، أي : في أمر الأمانة الحادثة في زمن الفتنة ; وبهذا يظهر وجه مناسبة ذكرها في الباب . قال النووي - رحمه الله : الأول : حدثنا أن الأمانة نزلت ، إلى آخره ، والثاني : حدثنا عن رفعها ( رأيت أحدهما ) : وهو نزول الأمانة ( وأنا أنتظر الآخر ) : وهو رفع الأمانة ( حدثنا ) : وهو الحديث الأول ( " إن الأمانة " ) : وهي الإيمان ، ومنه قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة وعبر عنه بها لأنها مدار أمر الديانة ( " نزلت في جذر قلوب الرجال " ) بفتح الجيم ويكسر أي : أصل قلوبهم ، قال شارح : جذر كل شيء أصله ، أي : إن الأمانة أول ما نزلت في قلوب رجال الله واستولت عليها ، فكانت هي الباعثة على الأخذ بالكتاب والسنة ، وهذا هو المعنى . قوله : ( " ثم علموا " ) أي : بنور الإيمان ( " من القرآن " ) أي : مما يتلقون عنه - صلى الله تعالى عليه وسلم - واجبا كان أو نفلا ، حراما أو مباحا ، مأخوذا من الكتاب أو الحديث ، وقوله : ( " ثم من السنة " ) ، وفي نسخة صحيحة : ثم علموا من السنة ، فيه إشارة إلى تأخير رتبة المأخوذ من الحديث بالنسبة إلى نص كلام القديم .
قال النووي - رحمه الله : الظاهر أن المراد بالأمانة التكليف الذي كلف الله تعالى به عباده ، والعهد الذي أخذه عليهم . قال صاحب التقرير : الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة وهي عين الإيمان ، انتهى . والظاهر أن المراد بالعهد في كلام النووي : العهد الميثاقي ، هو الإيمان الفطري ، فذكر قول صاحب التقرير لبيان مزيد تحرير التقرير ، لا لأنه مخالف للظاهر على ما هو المتبادر ، فإنه غير موافق لصدر الحديث السابق ، وكذا ما يأتيه من ختم الحديث بقوله اللاحق ، حيث قال : وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ، على أن الإيمان هو منع الأمانة ، وأما قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10365358لا إيمان لمن لا أمانة له " فالمراد به نفي الكمال ، والله تعالى أعلم بالحال .
( وحدثنا ) : وهو الحديث الثاني ( عن رفعها ) أي : ارتفاع ثمرة الإيمان وانتقاضه ، فإنه سيكون بعد عصره في عصر أصحابه ( قال : " ينام الرجل النومة " ) : وهي إما على حقيقتها فما بعده أمر اضطراري ، وأما النومة كناية عن الغفلة الموجبة لارتكاب السيئة الباعثة على نقص الأمانة ونقص الإيمان ( " فتقبض الأمانة " ) أي : بعضها ، كما يدل عليه ما بعده ، والمعنى : يقبض بعض ثمرة الإيمان ( من قلبه ، فيظل ) بفتحات فتشديد لام ، أي : فيصير ( " أثرها " ) أي : أثر الأمانة وهو ثمرة الإيمان ( " مثل أثر الوكت " ) بفتح الواو وإسكان الكاف وبالفوقية : وهو الأثر اليسير كالنقطة في الشيء ( " ثم ينام النومة " ) أي : الأخرى ( " فتقبض " ) أي : الأمانة أي بعض ما بقي منها ( " فيبقى " ) : معروفا ، وقيل مجهولا ( " أثرها مثل أثر المجل " ) بفتح الميم وسكون الجيم وتفتح ، وهو أثر العمل في اليد ( كجمر ) أي : تأثيرا كتأثير جمر ، وقال شارح : أبدل من مثل أثر المجل ، أي : يكون أثرها في القلب كأثر جمر ، أو خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني أثر المجل كجمر ( " دحرجته " ) أي : قلبته ودورته ( " على رجلك فنفط " ) بكسر الفاء ، ذكر الضمير فيه ، وكذا قوله : ( " فتراه منتبرا " ) بكسر الموحدة ، أي : منتفخا ، مع أن الرجل مؤنث سماعي على إرادة الموضع المدحرج عليه الجمر ، ومنه قول عمر - رضي الله تعالى عنه : إياكم والتخلل بالقصب ، فإنه الفم ينتبر منه ، أي : يرم وينتفط ، قيل : المعنى : يخيل إليك أن الرجل ذو أمانة ، وهو في ذلك بمثابة نقطة تراها منتفطة مرتفعة كبيرة لا طائل تحتها ، وفي الفائق : الفرق بين الوكت والمجل : أن الوكت النقطة في الشيء من غير لونه ، والمجل غلظ الجلد من العمل لا غير ، ويدل عليه قوله : فتراه منتبرا ( " وليس فيه شيء " ) أي : صالح ، بل ماء فاسد .
[ ص: 3380 ] وفي شرح مسلم : قال صاحب التحرير : معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا ، فإذا زال أول جزء منها زال نورها وخلفته ظلمة كالوكت ، وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله ، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل ، وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة ، وهذه الثلمة فوق التي قبلها ، ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه ، واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ، ثم يزول الجمر ويبقى النفط ، وإنما ذكر نفط ولم يقل نفطت اعتبارا بالعضو ، انتهى .
وقال شارح من علمائنا : يريد أن الأمانة ترفع عن القلوب ; عقوبة لأصحابها على ما اجترحوا من الذنوب ، حتى إذا استيقظوا من منامهم لم يجدوا قلوبهم على ما كانت عليه ، ويبقى فيه أثر ، تارة مثل الوكت وتارة مثل المجل ، وهو انتفاط اليد من العمل ، والمجل وإن كان مصدرا إلا أن المراد به هاهنا نفس النفطة ، وهذا أقل من المرة الأولى ; لأنه شبهها بالمجوف بخلاف المرة الأولى ، أراد به خلو القلب عن الأمانة مع بقاء أثرها من طريق الحساب .
( " ويصبح الناس " ) أي : يدخلون في الصباح أو يصيرون ( " يتبايعون " ) أي : يجري بينهم التبايع ، ويقع عندهم التعاهد ( " ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة " ) ، بل يظهر من كل أحد منهم الخيانة في المبايعة والمواعدة والمعاهدة ، ومن المعلوم أن حفظ الأمانة أثر كمال الإيمان ، فإذا نقص الأمانة نقص الإيمان وبطل الإيقان ، وزال الإحسان ، ( " فيقال " ) أي : من غاية قلة الأمانة في الناس ( " إن في بني فلان رجلا أمينا " ) أي : كامل الإيمان وكامل الأمانة ( ويقال ) أي : في ذلك الزمان ( " للرجل " ) أي : من أرباب الدنيا ممن له عقل في تحصيل المال والجاه ، وطبع في الشعر والنثر ، وفصاحة وبلاغة ، وصباحة وقوة بدنية ، وشجاعة وشوكة ، ( ما أعقله ! وما أظرفه ! وما أجلده " ) ; تعجبا من كماله ، واستغرابا من مقاله ، واستبعادا من جماله ، وحاصله أنه يمدحونه بكثرة العقل والظرافة والجلادة ، ويتعجبون منه ، ولا يمدحون أحدا بكثرة العلم النافع والعمل الصالح .
( " وما في قلبه " ) : حال من الرجل ، والحال أنه ليس في قلبه ( مثقال حبة ) أي : مقدار شيء قليل ( " من خردل " ) : من بيانية لحبة ، أي : هي خردل ( " من إيمان " ) أي : كائنا منه ، وهو يحتمل أن يكون المراد منه نفي أصل الإيمان وكماله ، والله تعالى أعلم .
قال الطيبي رحمه الله : لعله إنما على حملهم على تفسير الأمانة في قوله : إن الأمانة نزلت بالإيمان ، لقوله آخرا : وما في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان ، فهلا حملوها على حقيقتها لقوله : ويصبح الناس يتبايعون ، ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، فيكون وضع الإيمان آخرا موضوعها ; تفخيما لشأنها وحثا على أدائها ، قال - صلى الله تعالى عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10366439لا دين لمن لا أمانة له " ، قلت : إنما حملهم عليه ما ذكر آخرا وما صدر أولا من قوله : نزلت في جذر قلوب الرجال ، فإن نزول الأمانة بمعنى الإيمان هو المناسب لأصل قلوب المؤمنين ، ثم يعلمون إيقانه وإيقانهم بتتبع الكتاب والسنة ، وأما الأمانة فهي جزئية من كلية ما يتعلق بالإيمان والقرآن ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ( متفق عليه ) .