هذا نوع تخصيص بعد تعميم ، أو ذكر جزئي بعد الكلي اهتماما به ، واعتناء باتصافه لما وقع فيه من الاختلاف الناشئ عن التحير في هذا الأمر الذي هو عظيم الشأن بين أهل الإيمان ، والقدر : بالفتح ، وتسكن ما يقدره الله تعالى من القضايا . قال في شرح السنة : الإيمان بالقدر فرض لازم ، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها ، وشرها ، وكتبها في اللوح المحفوظ قبل أن خلقهم ، والكل بقضائه وقدره ، وإرادته ، ومشيئته ، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة ، ووعد عليهما الثواب ، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب . والقدر : سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليها ملكا مقربا ، ولا نبيا مرسلا ، ولا يجوز الخوض فيه ، والبحث عنه بطريق العقل ، بل يجب أن يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فرقتين : فرقة خلقهم للنعيم فضلا ، وفرقة للجحيم عدلا ، وسأل رجل nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : أخبرني عن القدر ؟ قال : طريق مظلم لا تسلكه ، وأعاد السؤال فقال : بحر عميق لا تلجه ، فأعاد السؤال فقال : سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه ، ولله در من قال :
تبارك من أجرى الأمور بحكمه كما شاء لا ظلما أراد ، ولا هضما فما لك شيء غير ما الله شاءه فإن شئت طب نفسا وإن شئت مت كظما
الفصل الأول
79 - ( عن عبد الله بن عمرو ) : رضي الله عنهما ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( كتب الله مقادير الخلائق ) : جمع مقدار ، وهو الشيء الذي يعرف به قدر الشيء ، وكميته كالمكيال ، والميزان ، وقد يستعمل بمعنى القدر نفسه ، وهو الكمية ، والكيفية ( قبل أن يخلق السماوات ، والأرض ) : ومعنى كتب الله ؛ أجرى الله القلم على اللوح المحفوظ بإيجاد ما بينهما من التعلق ، وأثبت فيه مقادير الخلق ما كان ، وما هو كائن إلى الأبد على وفق ما تعلقت به إرادته أزلا كإثبات الكاتب ما في ذهنه بقلمه على لوحه ، وقيل : أمر الله القلم أن يثبت في اللوح ما سيوجد من الخلائق ذاتا وصفة ، وفعلا ، وخيرا ، وشرا على ما تعلقت به إرادته ، وحكمة ذلك إطلاع الملائكة على ما سيقع ليزدادوا بوقوعه إيمانا ، وتصديقا ، ويعلموا من يستحق المدح والذم فيعرفوا لكل مرتبته ، أو قدر وعين مقاديرهم تعيينا بتا لا يتأتى خلافه بالنسبة لما في علمه القديم المعبر عنه بأم الكتاب ، أو معلقا كأن يكتب في اللوح المحفوظ فلان يعيش عشرين سنة إن حج ، وخمسة عشر إن لم يحج ، وهذا هو الذي يقبل المحو والإثبات المذكورين في قوله تعالى : ( يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ) أي : التي لا محو فيها ، ولا إثبات فلا يقع فيهما إلا ما يوافق ما أبرم [ ص: 148 ] فيها . كذا ذكره ابن حجر ، وفي كلامه خفاء إذ المعلق ، والمبرم كل منهما مثبت في اللوح غير قابل للمحو ، نعم المعلق في الحقيقة مبرم بالنسبة إلى علمه تعالى ، فتعبيره بالمحو إنما هو من الترديد الواقع في اللوح إلى تحقيق الأمر المبرم المبهم الذي هو معلوم في أم الكتاب ، أو محو أحد الشقين الذي ليس في علمه تعالى ، فتأمل فإنه دقيق ، وبالتحقيق حقيق . ( وقوله : ( بخمسين ألف سنة ) : معناه طول الأمد ما بين التقدير ، والخلق من المدد ، أو تقديره ببرهة من الدهر الذي يوم منه كألف سنة مما تعدون ، وهو الزمان ، أو من الزمان نفسه . فإن قلت : كيف يحمل على الزمان ، ولم يخلق الزمان ، ولا ما يتحدد به من الأيام ، والشهور ، والسنين ؟ قلت : يحمل الزمان حينئذ على مقدار حركة الفلك الأعظم الذي هو العرش ، وهو موجود حينئذ بدليل أنه ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( وعرشه على الماء ) : وفي المصابيح : وكان عرشه على الماء يعني كان عرش الله قبل أن يخلق السماوات ، والأرض على وجه الماء ، والماء على متن الريح ، والريح على القدرة ، وهذا يدل على أن العرش ، والماء كانا مخلوقين قبل خلقهما ، وقيل ذلك الماء هو القلم ، وقيل : فيه دليل لمن زعم أن أول ما خلق الله في العالم الماء ، وإنما أوجد سائر الأجسام منه تارة بالتلطيف ، وتارة بالتكثيف . قال ابن حجر : اختلفت الروايات في أول المخلوقات ، وحاصلها كما بينتها في شرح شمائل nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي أن أولها النور الذي خلق منه - عليه الصلاة والسلام - ، ثم الماء ، ثم العرش ( رواه مسلم ) .