صفحة جزء
[ ص: 212 ] 131 - وعن البراء بن عازب ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان : له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله . فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول ديني الإسلام ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله فيقولان له : ما يدريك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فذلك قوله : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية . قال : فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة ، فيفتح . قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له فيها مد بصره . وأما الكافر فذكر موته ، قال : ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ! فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ! فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه ، لا أدري ! فينادي مناد من السماء : أن كذب فأفرشوه من النار ، وألبسوه من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار .

قال : فيأتيه من حرها وسمومها . قال : ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ثم يقيد له أعمى أصم ، معه مرزبة من حديد ، لو ضرب بها جبل لصار ترابا ، فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين ، فيصير ترابا ، ثم يعاد فيه الروح
" رواه أحمد وأبو داود .


131 - ( وعن البراء ) : بالتخفيف والمد على المشهور وقيل بالقصر نقله الكرماني ( بن عازب ) : رضي الله عنهما ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يأتيه ملكان ) : قال ابن الملك : روى هذا الحديث البراء كما رواه أبو هريرة إلا أن ألفاظهما مختلفة . قال في رواية البراء : يأتيه ، أي : المؤمن ملكان ( فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ) : بفتح الياء وتسكن ، ولو كان الميت أعجميا صار عربيا ( فيقولان له : ما دينك ) ، أي : الذي اخترته من بين الأديان ( فيقول : ديني الإسلام . فيقولان ) ، أي : له كما في نسخة ( ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ ) ، أي : ما وصفه لأن ( ما ) يسأل به عن الوصف كذا قاله الطيبي ، وتبعه ابن حجر وقال ، أي : ما وصفه أرسول هو ، أو ما اعتقادك فيه ؟ والأظهر أن ( ما ) : بمعنى ( من ) ليوافق بقية الروايات بلفظ : من نبيك ( فيقول : هو رسول الله ) . وفي نسخة - صلى الله عليه وسلم - ( فيقولان له ) ، أي : للميت ( وما يدريك ؟ ) ، أي : أي شيء أعلمك وأخبرك بما تقول من الربوبية والإسلام والرسالة ؟ وقيل : إنما وصل بالواو العاطفة هنا لاتصاله بما قبله بخلاف ما دينك وما هذا الرجل ؟ فإن كلا منهما مستقل منقطع عما قبله ( فيقول : قرأت كتاب الله ) ، أي : القرآن ( فآمنت به ) ، أي : بالقرآن فإن الإيمان به مستلزم للإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أو آمنت بالنبي أنه حق ( وصدقت ) ، أي : صدقته بما قال ، أو صدقت بما في القرآن فوجدت فيه : فاعلم أنه لا إله إلا الله و ذلكم الله ربكم خالق كل شيء وغير ذلك من الآيات الدالة على أن ربي ورب المخلوقات واحد وهو الله تعالى ، وفيه أيضا : إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه فعلمت أنه لا دين مرضيا عنده غير الإسلام ، وفيه أيضا : محمد رسول الله و قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا وغير ذلك . كذا قاله ابن الملك ، وقال الطيبي : قرأت كتاب الله ورأيت فيه الفصاحة والبلاغة فعرفت أنه معجز فآمنت به أو تفكرت فيما فيه من البعث على مكارم الأخلاق وفواضل الأعمال ، ومن ذكر الغيوب وأخبار الأمم السالفة من غير أن يسمع من أحد فعرفت أنه من عند الله فآمنت به ( فذلك ) ، أي : وصداق هذا قوله ، أي : جريان لسانه بالجواب المذكور هو التثبيت الذي تضمنه قوله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية قال ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( فينادي مناد ) ، أي : للملكين ( من السماء ) ، أي : من جهتها ( أن صدق عبدي ) : أن مفسرة للنداء لأنه في معنى القول ، وجوز أن تكون مصدرية مجرورا بتقدير اللام وهو غير صحيح معنى إلا أن يتعلق بقوله ( فأفرشوه ) : والمعنى صدق عبدي فيما يقول ، فإنه كان في الدنيا على هذا الاعتقاد فهو مستحق للإكرام ، ولذا سماه عبدا وأضافه إلى نفسه تشريفا فأفرشوه بهمزة القطع ( من الجنة ) : والفاء فيه جواب شرط مقدر ، أي : إذا صدق عبدي فاجعلوا له فرشا من فرش الجنة ، فيكون أفرش بمعنى فرش كذا قيل .

[ ص: 213 ] وقال الطيبي : ليس في المصادر الإفراش بهذا المعنى إنما هو أفرش أي أقلع عنه ، فهذا اللفظ بهذا المعنى من باب القياس بإلحاق الألف في الثلاثي ، فلو كان من الثلاثي لكان حقه الوصل ولم نجد الرواية إلا بالقطع اهـ .

لكن قال في " القاموس " : أفرش عنه أقلعه وأفرشه أعطاه فرشا من الإبل أي صغارا وأفرش فلانا بساطا بسطه له كفرشه فرشا وفرشه تفريشا . وقال السيد جمال الدين : أصله أفرشوا له فحذف لام الجر ووصل الضمير بالفعل اتساعا ، وقيل معناه أعطوه فراشا منها ، وقيل : معناه اجعلوه ذا فرش من الجنة ، وقال ابن حجر : يعني عن سماعه صحة الرواية اهـ . وكله تكلف مستغنى عنه بما ذكر في القاموس . ( وألبسوه ) : بقطع الهمزة أي اكسوه أو أعطوه لباسا ( من الجنة ) : أي من حللها ( وافتحوا له بابا إلى الجنة ) ، أي : حقيقة أو مكاشفة كذا في " الأزهار " ، والأظهر هو الأول لما يأتي ( فيفتح ) : وفي نسخة : ويفسح أي له كما في نسخة ( قال ) : - صلى الله عليه وسلم - : ( فيأتيه ) ، أي : المؤمن ( من روحها ) ، أي : بعض روحها ، والروح : بالفتح الراحة ونسيم الريح ( وطيبها ) ، أي : بعض تلك الرائحة والطيب : أي شيء منها ، ولم يؤت بهذا التعبير إلا ليفيد أنه مما لا يقادر قدره ، ولا يوصف كنهه ، وكل طيب روح ولا عكس ، وقيل : ( من ) زائدة على مذهب الأخفش ( ويفسح ) ، وفي نسخة : تفتح وهو غير ملائم لمد البصر ( له فيها ) ، أي : في تربته وهي قبره ، ويدل عليه مقابله الآتي ويضيق عليه قبره . وقال ابن الملك ، أي : في الجنة وهو بعيد . وقال ابن حجر ، أي : في رؤيته وهو لا يخلو عن تكلف ( مد بصره ) : المعنى أنه يرفع عنه الحجاب فيرى ما يمكنه أن يراه . قيل : نصب ( مد ) على الظرف أي مداه وهي الغاية التي ينتهي إليها البصر والأصوب أن نصبه على المصدر أي فسحا قدر مد بصره ، وقيل في التوفيق بين هذا وبين قوله : سبعون ذراعا في سبعين أن هذه الفسحة عبارة عما يعرض عليه من الجنة وتلك عن توسيع مرقده عليه أو كلاهما كناية عن التوسعة من غير تحديد ، ويحتمل أن يكون بحسب اختلاف أحوال الأشخاص في الأعمال والدرجات . وقال ابن حجر : مد بصره بالفتح في نسخة معتمدة فله نائب الفاعل وبرفعه في نسخ ، ويؤيده سبعون ذراعا السابق ( وأما الكافر فذكر ) ، أي صلى الله عليه وسلم كما في نسخة ( موته ) ، أي : حال موت الكافر وشدته ( قال ) ، أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - . ( ويعاد ) : بالتذكير وقيل بالتأنيث ( روحه ) : أي بعد الدفن ( في جسده ) ، أي : بعضه أو كله ( ويأتيه ملكان ، فيجلسانه فيقولان ) : أي له من ربك ؟ فيقول : هاه هاه ) : بسكون الهاء فيهما بعد الألف كلمة يقولها المتحير الذي لا يقدر من حيرته للخوف ، أو لعدم الفصاحة أن يستعمل لسانه في فيه ( لا أدري ) : هذا كأنه بيان وتفسير لقوله : هاه هاه فالمعنى لا أدري شيئا ما أو لا أدري ما أجيب به ( فيقولان له ) ، أي : للكافر ( ما دينك ) : من الأديان ( فيقول : هاه هاه لا أدري : فيقولان ) : أي له : ( ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ ) يعني ما تقول في حقه أنبي أم لا ( فيقول : هاه هاه لا أدري ) : قال تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) فينادي مناد من السماء : أن كذب ) : أن مفسرة للنداء أيضا ، أي : كذب هذا الكافر في قوله : لا أدري لأن دين الله تعالى ونبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كان ظاهرا في مشارق الأرض ومغاربها ، بل جحد نبوته بالقول أو بالاعتقاد بناء على أن كفره جهل أو عناد ( فأفرشوه من النار ، وألبسوه من النار ) . قال تعالى : ( سرابيلهم من قطران ) وافتحوا له بابا إلى النار .

[ ص: 214 ] وقال : - صلى الله عليه وسلم - : ( فيأتيه ) ، أي : الكافر ( من حرها ) ، أي : حر النار وهو تأثيرها ( وسمومها ) : وهي الريح الحارة ( قال : ويضيق ) : بتشديد الياء المفتوحة ( عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ثم يقيض ) ، أي : يسلط ويوكل ويقدر ( له ) : فيستولي عليه استيلاء القيض على البيض ، وأصله من القيض وهو القشرة الأعلى من البيض ( أعمى ) ، أي : زبانية لا عين له " كيلا يرحم عليه ، وهو يحتمل أن لا يكون له عين لأجله أو كناية عن عدم نظره إليه ( أصم ) ، أي : لا يسمع صوت بكائه واستغاثته فيرق له ( معه مرزبة من حديد ) : المسموع في الحديث تشديد الباء ، وأهل اللغة يخففونها وهي التي يدق بها المدر ويكسر . قال ابن حجر : المرزبة بفتح الموحدة المشددة عند المحدثين ، واعترضوا بأن الصواب تخفيفها اهـ . ولعل وجهه أن مفعلة بتشديد اللام لا يعرف في أنواع الميزان الصرفي ، قال الطيبي : أما المرزبة فالمحدثون يشددون الباء ، والصواب تخفيفه وإنما تشدد الباء إذا أبدلت الهمزة من الميم وهي والأرزبة : ، وأنشد الفراء :

ضربك بالمرزبة العود النخر

اهـ .

أقول : أخطأ الطيبي رحمه الله في تخطئة المحدثين وتصويب اللغويين ، إذ نقل الأولين من طرق العدول على وجه الرواية ، ونقل الآخرين من سبيل الفضول على جهة الحكاية ، وأما استشهاده بإنشاد الفراء فضعيف إذ يحتمل تخفيفه ضرورة أو لغة أخرى ، وقد ذكرهما صاحب القاموس روح الله روحه أبدا فقال : الأرزبة والمرزبة مشددتان أو الأولى فقط : عصية من حديد اهـ . فظهر أن التشديد فيهما لغة مشهورة عند أكثر أهل اللغة ، فلو وافق بعض اللغويين جميع المحدثين لا شك ولا ريب أنه هو الصواب ، فكيف بالتكثير مع أنه عند التعارض أيضا يرجح جانب المحدثين لما تقدم . وأغرب من هذا طعن بعض علماء العربية في القراءات المتواترة حيث لم تكن على وفق مسموعهم وهو كفر ظاهر ، والله ولي دينه وحافظ كتابه وقادر على ثوابه وعقابه . ( لو ضرب بها ) ، أي : المرزبة ( جبل لصار ترابا ) ، أي : اندق أجزاؤه كالتراب ( فيضربه بها ) : وفي نسخة بها ساقط ( ضربة يسمعها ) ، أي : صوتها وحسها ( ما بين المشرق والمغرب ) : الظاهر أن ( ما ) بمعنى ( من إلا الثقلين ) ، أي : الجن والإنس وهل الأموات منهما مستثنى أم الله أعلم بهما ؟ فظاهر الإطلاق يؤيد الأول ، والعلة التي ذكروها يؤيد الثاني . ( فيصير ترابا ، ثم يعاد فيه الروح ) كرر إعادة الروح في الكافر بيانا لشدة العذاب ، ولأنه كان ينكر الإعادة ، فيقال له : ذق هذا جزاء بما كنت تنكره ، ولا يبعد أن يتمسك به من يقول : إن في القبر إماتتين وإحياءتين في تفسير قوله تعالى ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين على أن المراد بالتثنية التكرير والتكثير نحو قوله تعالى : ثم ارجع البصر كرتين وقولهم : لبيك وسعديك ، ويحتمل أن يراد به حقيقة التثنية وهو ظاهر الحديث ، وهذا معنى قول ابن حجر : ومعلوم استمرار العذاب عليه في قبره ، فيحتمل أنها إذا أعيدت تضرب أخرى فيصير ترابا ، ثم يعاد فيه الروح وهكذا ، ويحتمل أن تلك الإعادة لا تتكرر وأن عذابه يكون بغير ذلك وهو ظاهر الحديث .

وقال ابن الملك : يعني لا ينقطع عنهم العذاب بموتهم بل تعاد فيهم الروح بعد موتهم ليزدادوا عذابا ، ويمكن والله أعلم أن تكون إعادة الروح كناية عن رجوعهم إلى حالتهم الأولى ، ولا يلزم من صيرورتهم ترابا خروج الروح منهم لأن أمور الآخرة مبنية على خرق العادة . ( رواه أحمد ، وأبو داود ) .

[ ص: 215 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية