صفحة جزء
148 - وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما ، فقال : يا قوم ! إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان ! فالنجاء النجاء . فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا ، فانطلقوا على مهلهم ، فنجوا . وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم ، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق " متفق عليه .


148 - ( وعن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إنما مثلي ) : المثل بفتحتين الصفة العجيبة وهو في الأصل بمعنى المثل الذي هو النظير ، ثم استعير للقول السائر : المثل مضربه بمورده ، وذلك لا يكون إلا قولا فيه غرابة من قصة وحال وصفة ( ومثل ما بعثني الله به ) ، أي : إلى أمتي ، وقيل ( ما ) بمعنى ( من ) ، أي : من أرسلني إليه ( كمثل رجل ) : قيل : هذا من التشبيهات المفروقة وهي أن يؤتى بمشبه ومشبه به ثم بآخر وآخر وسيأتي بيانه ( أتى قوما ) ، أي : لينذرهم بقرب عدوهم منهم وأنهم لا قدرة لهم على لقائه ، وإنما الذي ينجيهم منه أنهم يهربون [ ص: 231 ] عنه ، وذلك الرجل من أجلتهم وأمين من أخباره عندهم ( فقال : يا قوم ! إني رأيت ) ، أي : أبصرت ( الجيش ) ، أي : العسكر الكثير المتوجه إليكم ( بعيني ) : للتأكد ودفع توهم المجاز ، وهو بالتثنية وتشديد الياء الأخيرة . وروي بالإفراد وتخفيف الياء ( وإني أنا النذير ) : فيه الحصر ( العريان ) ، أي : بلا غرض ، والنذير العريان : مثل مشهور سائر بين العرب يضرب لشدة الأمر ودنو المحذور وبراءة المحذر عن التهمة ، وأصله أن الرجل إذا رأى العدو قد هجم على قومه ، وأراد أن يفاجئهم وكان يخشى لحوقهم قبل لحوقه تجرد عن ثوبه وجعله على رأس خشبة وصاح ليأخذوا حذرهم ، وقيل : هو الذي غشيه العدو وكان ربيئة قومه ، أي : جاسوسهم ، فأخذوه وتعلقوا بثيابه فانسل منها ولحق بقومه فأنذرهم ، فلما رأوه على حالته تلك ارتحلوا عن آخرهم ، وقيل : إنه الذي سلب العدو ما عليه من الثياب فأتى قومه عريانا يخبرهم فصدقوه لما عليه من آثار الصدق ، وخص العريان بالذكر لأنه أبين في العين وأغر وأشنع عند البصر ( فالنجاء النجاء ) : في أكثر النسخ مرتين .

وفي نسخة مرة وهو بالمد على الأصح مصدر نجا إذا أسرع . يقال : ناقة ناجية أي مسرعة . قال ابن الملك : بالفاء والمد والقصر نصب على الإغراء ، أي : اطلبوا النجاء أو على المصدر ، أي : انجوا وهو الإسراع ، كرر للتأكيد . قيل في " شرح السنة " وبعض نسخ " المصابيح " مرة ، وفي كثير منها مرتين . قال الطيبي : روى الإمام عن القاضي عياض المعروف في " صحيح البخاري : إذا أفرد النجاء مد ، وحكى أبو زيد فيها القصر ، وأما إذا كرر ففيه المد والقصر معا اهـ .

ونقل الأبهري عن الشيخ بالمد فيهما وبمد الأولى وقصر الثانية وبالقصر فيهما تخفيفا ، وهو منصوب على الإغراء ، أي : اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب إشارة إلى أنهم لا يطيقون مقاومة ذلك الجيش ( فأطاعه طائفة من قومه ) . قال الطيبي : الإطاعة تتضمن التصديق يعني فيحسن مقابلته بقوله : كذبت فيما يأتي ( فأدلجوا ) : همزة قطع ثم سكون هو الصحيح ، أي : ساروا أول الليل أو ساروا الليل كله على اختلاف في مدلول هذه اللفظة ، وأما بالوصل والتشديد على أن المراد به سير آخر الليل فلا يناسب هذا المقام كذا ذكره الأبهري . وقال الطيبي ، أي : ساروا في الدلجة وهي الظلمة ، وقال السيد جمال الدين : والدلجة أيضا السير في الليل ، وكذا الدلج بفتح اللام ، وادلجوا بتشديد الدال ساروا آخر الليل ( فانطلقوا ) ، أي : ذهبوا وساروا ( على مهلهم ) : بفتح الميم ويسكن .

وقال الطيبي : المهل بالحركة الهيئة والسكون وبالسكون الإمهال . قال الإمام النووي في نسخ " مسلم " : بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام ، وفي الجمع بين " الصحيحين " مهلهم بحذف التاء وفتح الميم والهاء وكلاهما صحيحان اهـ . لكن لم يوجد في نسخ " المشكاة " إلا بدون التاء اختيارا للفظ البخاري على لفظ مسلم لكونه أصح ( فنجوا ) ، أي : بسبب تصديق المنذرين ( وكذبت طائفة منهم ) . قال الطيبي : التكذيب يستتبع العصيان يعني فيه إيماء إلى ما قدمناه ( فأصبحوا مكانهم ) ، أي : دخلوا وقت الصباح في مكانهم ( فصبحهم ) : بتشديد الباء ( الجيش ) ، أي : أتاهم جيش العدو صباحا للإغارة ( فأهلكهم واجتاحهم ) : بالجيم في الأولى والمهملة في الثانية ، أي : استأصلهم وأهلكهم بالكلية بشؤم التكذيب ، وهذا فائدة الجمع بينهما ( فذلك ) ، أي : المثل المذكور ( مثل من أطاعني فاتبع ) : وفي نسخة بالواو ( ما جئت به ) ، أي : من الحق ، وهذا ليعلم أنه لا ينبغي أن يستروح بظاهر الطاعة عن اتباع ما جاء به ( ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق ) . قال السيد جمال الدين : من التشبيهات المفروقة شبه ذاته عليه الصلاة والسلام بالرجل ، وما بعثه الله به من إنذار القوم بعذاب الله القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبح ، وشبه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن صدق الرجل في إنذاره ، وكذبه اهـ . فهو على حد قول امرئ القيس :

كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب والحشف البالي

شبه القلوب الرطبة بالعناب واليابسة بالحشف على التفريق بطريق اللف والنشر المرتب ( متفق عليه ) .

[ ص: 232 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية