صفحة جزء
2268 - وعن حنظلة بن الربيع الأسيدي - رضي الله عنه - ، قال : لقيني أبو بكر قال : كيف أنت يا حنظلة ؟ قلت : نافق حنظلة . قال : سبحان الله ما تقول ؟ ! قلت : نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ، نسينا كثيرا . قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا ، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وما ذاك ؟ ) قلت : يا رسول الله ! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفسي بيده ، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ، ولكن يا حنظلة ! ساعة وساعة " ثلاث مرات ( رواه مسلم ) .


2268 - ( وعن حنظلة ) : هذا كاتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا حنظلة بن مالك غسيل الملائكة ( بن الربيع ) : بضم الراء وفتح الموحدة وتشديد الياء المكسورة ، وفي نسخة الربيع بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية ، كذا بخط الكرماني شارح البخاري ، ويؤيده ما في مقدمة ابن حجر : الربيع كثير وبالتصغير امرأتان ا هـ . فينبغي الاعتماد عليها ( الأسيدي ) : بضم الهمزة وفتح السين وتشديد الياء وتخفيفها والأول أصح وأشهر على ما في شرح مسلم . ( قال : لقيني أبو بكر ) : ولعله لما كان مغلوبا لم يقل لقيت أبا بكر كما هو مقتضى الأدب ( فقال : كيف أنت يا حنظلة ؟ ) : سؤال عن الحال أي : كيف استقامتك على ما تسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - أهي موجودة أم لا ؟ وقال الطيبي : أي : أتستقيم على الطريق أم لا ؟ ( فقلت : نافق حنظلة ) : عبر عن نفسه لغيبته عنها بالغيبة أي : صار منافقا وأراد نفاق الحال لا نفاق الإيمان . قال الطيبي : فيه تجريد لأن أصل الكلام نافقت ، فجرد من نفسه شخصا آخر مثله ، فهو يخبر عنه لما رأى من نفسه ما لا يرضى لمخالفة السر العلن ، والحضور الغيبة .

( قال ) : أي : أبو بكر ( سبحان الله ) : تعجب أو تبرئة وتنزيه ( ما تقول ؟ ! ) : أي : بين معنى ما تقول : قال الطيبي : ما استفهامية ، وقوله : تقول هو المتعجب منه يعني : عجبت من قولك هذا الذي حكمت فيه بالنفاق على نفسك . ( قلت : نكون ) : أي : جميعا على وصف الجمعية ( عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) : والمعنى : لا عجب في ذلك ؛ لأنا نكون عنده ، وأتى بضمير الجمع ؛ لأن من المعلوم أنه لا بد في الحاضرين من يشابه حنظلة في ذلك ، ولم يقل نافقنا لئلا يتوهم العموم الشامل للخصوص ( يذكرنا ) : بالتشديد أي : يعظنا ( بالنار ) : أي : بعذابها تارة ( والجنة ) : أي : بنعيمها أخرى ترهيبا وترغيبا ، أو يذكرنا الله بذكرهما ، أو بقربهما ، أو بكونهما من آثار صفتي الجلال والجمال ، ( كأنا ) : أي : حتى صرنا كأنا ( رأي عين ) : بالنصب أي : كأنا نرى الله ، أو الجنة والنار رأي عين ، فهو مفعول مطلق بإضمار نرى ، وفي نسخة بالرفع أي : كأنا راؤنا بالعين على أنه مصدر بمعنى اسم الفاعل ، ويصح [ ص: 1550 ] كونه الخبر للمبالغة كرجل عدل ( فإذا خرجنا ) : أي : فارقناه على وصف التفرقة ( من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والأولاد ) : أي : خالطناهم ولاعبناهم وعالجنا أمورهم واشتغلنا بمصالحهم ( والضيعات ) : أي : الأراضي والبساتين . وقال الطيبي : ضيعة الرجل ما يكون معاشه به كالزراعة والتجارة ونحوها ( نسينا ) : بدل اشتمال من عافسنا ، أو على جواب إذا ، وجملة عافسنا بتقدير قد حال ، والمعنى نسينا كثيرا كما في نسخة صحيحة أي : ما ذكرنا به وقيل : أي : نسيانا كثيرا .

( قال أبو بكر ) : إذا قلت ذلك وذكرت بيانه ( فوالله إنا لنلقى ) : أي : كلنا ( مثل هذا ) : أي : من التفاوت في الحال لما تقرر من تأثير صحبة أهل الكمال ( فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت : نافق حنظلة يا رسول الله ! قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : وما ذاك ؟ ) : أي : وما سبب ذلك القول ؟ ( قلت : يا رسول الله ! نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين ، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا ) . قال الطيبي : أي : كثيرا مما ذكرتنا به ، أو نسيانا كثيرا كأنا ما جمعنا منك شيئا قط ، وهذا أنسب بقوله : رأي عين . ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لو تدومون ) : أي : في حال غيبتكم مني ( على ما تكونون عندي ) : أي : من صفاء القلب والخوف من الله تعالى ، قاله الطيبي ، أو من دوام الذكر وتمام الحضور فيكون قوله : ( وفي الذكر ) : معطوفا على قوله : " على ما تكونون " عطف تفسير . وقال الطيبي : عطف على خبر كان الذي هو عندي ، وقال ابن الملك : الواو بمعنى ( أو ) عطف على قوله : ما تكونون ، أو على عندي أي لو تدومون في الذكر ، أو على ما تكونون في الذكر وأنتم بعداء مني من الاستغراق فيه ، ( لصافحتكم الملائكة ) : قيل : أي : علانية ، وإلا فكون الملائكة يصافحون أهل الذكر حاصل . وقال ابن حجر : أي : عيانا في سائر الأحوال ، وإن كنتم ( على فرشكم وفي طرقكم ) : أي : في حالتي فراغكم وشغلكم ، وفي زمان أيامكم ولياليكم ؛ لأنكم إذا كنتم في الحضور والغيبة على ما ذكرتم كنتم على أكمل الأحوال دائما ، ومن هو كذلك مع الموانع البشرية والقواطع النفسية يرى الملائكة متبركين به ، معظمين له في كل من الأمكنة والأزمنة . قال الطيبي : المراد الدوام . ( ولكن يا حنظلة ساعة ) : أي : كذا يعني المنافسة ( وساعة ) : أي : كذا يعني المعافسة . وفي المصابيح : ساعة فساعة .

قال ابن الملك : الفاء في الساعة الثانية للإيذان بأن إحدى الساعتين معقبة بالأخرى ، وفي بعض النسخ بالواو اهـ . يعني لا يكون الرجل منافقا بأن يكون في وقت على الحضور وفي وقت على الفتور ، فمن ساعة الحضور تؤدون حقوق ربكم ، وفي ساعة الفتور تقضون حظوظ أنفسكم ، ويحتمل أن يكون قوله : ساعة وساعة للترخيص أو للتحفظ لئلا تسأم النفس عن العبادة . وحاصله أن يا حنظلة هذه المداومة على ما ذكر مشقة لا يطيقها كل أحد فلم يكلف بها ، وإنما الذكر يطيقه الأكثرون أن يكون الإنسان على هذه الحالة ساعة ، ولا عليه بأن يصرف نفسه للمعافسة المذكورة وغيرها ساعة أخرى ، وأنت كذلك فأنت على الصراط المستقيم ، ولم يحصل منك نفاق قط كما توهمته ، فانته عن اعتقاد ذلك فإنه مما يدخله الشيطان على السالكين ، حتى يغيرهم عما هم فيه ، ثم لا يزال يغيرهم كذلك إلى أن يتركوا العمل رأسا ( ثلاث مرات ) : أي : قال ذلك ثلاث مرات ، وهو يحتمل أن يكون قوله : والذكر إلخ . أو قوله : ولكن إلخ . أو قوله : ساعة وساعة ، وإنما اختار الطيبي الأخير لتحققه ، وهذا يدل على تحقيقه ، فاندفع قول ابن حجر ، وتعيين الشارح لا دليل عليه .

أقول : ونظير هذا المبحث وقوع الاستثناء بعد الجمل ، فإنه راجع عند أئمتنا المحققين إلى الجملة الأخيرة ، بخلاف مذهب الشافعي ، فإنه يعود إلى جميع ما ذكر ، كما حقق في قوله تعالى : ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون [ ص: 1551 ] وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك فتقبل شهادة القاذف عنده بعد التوبة ولا تقبل عندنا . وقوله : أبدا يؤيد أن ثلاث مرات للتأكيد ولإزالة ما اهتم به نفس حنظلة عنه ، ولبيان أنهم لا يقدرون على دوام الحضور من غير الفتور .

قال الطيبي : أي : قال ثلاث مرات ساعة يكون في الذكر والحضور ، وساعة في معافسة الأزواج وغيرها ، وفي ذلك تقرير على الحالة التي كان حنظلة عليها وأنكرها ، ومن ثمة ناداه باسمه تنبيها على أنه كان ثابتا على الصراط المستقيم ، وما نافق قط أي : النفاق العرفي وهو إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، وإنما أراد بقوله : نافق حنظلة ، إما المعنى اللغوي ، وهو أن يكون عنده - صلى الله عليه وسلم - على حالة وعند غيره على حالة أخرى ، وإما التشبيه الحالي ؛ لأن حاله يشبه حال المنافق لعدم استمراره على مقام المواقف . ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية