صفحة جزء
2459 - وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم ، والمغرم والمأثم ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار ، وفتنة القبر ، وعذاب القبر ، ومن شر فتنة الغنى ، ومن شر فتنة الفقر ، ومن شر فتنة المسيح الدجال ، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ، ونق قلبي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ) . متفق عليه .


2459 - ( وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الكسل ) : أي : التثاقل في الطاعة ( والهرم ) : المراد به صيرورة الرجل خرفا من كبر السن ( والمغرم ) : أي : الغرامة ، وهي أن يلتزم الإنسان ما ليس عليه ، وقيل : هو ما يلزم الشخص أداءه كالدين ( والمأثم ) : أي : الإثم أو ما يوجبه ، ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ) : أي : من أن أكون من أهل النار وهم الكفار ، فإنهم المعذبون ، وأما الموحدون فإنهم مؤدبون ومهذبون بالنار لا معذبون بها . ( وفتنة النار ) : أي : فتنة تؤدي إلى النار لئلا يتكرر ، ويحتمل أن يراد بفتنة النار سؤال الخزنة على سبيل التوبيخ ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ( وفتنة القبر ) : أي : التحير في جواب الملكين ( وعذاب القبر : وهو ضرب من لم يوفق للجواب بمقامع من حديد وغيره من العذاب ، والمراد بالقبر البرزخ ، والتعبير به للغالب ، أو كل ما استقر [ ص: 1705 ] أجزاؤه فيه فهو قبره ( ومن شر فتنة الغنى ) : وهي البطر والطغيان ، وتحصيل المال من الحرام ، وصرفه في العصيان ، والتفاخر بالمال والجاه ، ( ومن شر فتنة الفقر ) : وهي الحسد على الأغنياء ، والطمع في أموالهم ، والتذلل بما يدنس العرض ، ويثلم الدين ، وعدم الرضا بما قسم الله له ، وغير ذلك مما لا تحمد عاقبته ، وناهيك قوله - عليه الصلاة والسلام - : ( كاد الفقر أن يكون كفرا ) . وقيل : الفتنة هنا الابتلاء والامتحان أي : من بلاء الغنى وبلاء الفقر ، أي : من الغنى والفقر الذي يكون بلاء ومشقة ، ويمكن أن يقال : إن الفقر والغنى لذاتهما محمودان ، وإن كان الجمهور على أن الفقر أسلم ، وقد قال تعالى : إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ففي الآية إيماء إلى أن التسليم أفضل ، وأن بسط الرزق وتضييقه كل واحد يناسب بعض عباده دون بعض ، ولذا ورد في الحديث القدسي : إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لفسد حاله ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لفسد حاله . فمن شرط الفقر أن يكون صابرا ومن شرط الغنى أن يكون شاكرا ، فإذا لم يكونا كذلك يكون كل واحد منهما فتنة لهما .

ومجمل الكلام أن كل ما يقربك إلى الله تعالى ، فهو مبارك عليك ، وكل ما يبعدك عن الله تعالى فهو شؤم عليك ، سواء يكون فقرا أو غنى . قال بعض المحققين : قيد فيهما بالشر لأن كلا منهما فيه خير باعتبار وشر باعتبار ، فالتقييد في الاستعاذة منه بالشر يخرج ما فيه من الخير ، سواء قل أو كثر . وقال الطيبي : إن فسرت الفتنة بالمحنة والمصيبة فشرها أن لا يصبر الرجل على لأواها ويجزع منها ، وإن فسرت بالامتحان والاختبار فشرها أن لا يحمد في السراء ولا يصبر في الضراء ، وقال الغزالي - قدس الله سره - : فتنة الغنى الحرص على جمع المال والحب على أن تكسبه من غير حله ، ويمنعه من واجبات إنفاقه وحقوقه ، وفتنة الفقر يراد به الفقر الذي لا يصحبه خير ولا ورع ، حتى يتورط صاحبه بسببه فيما لا يليق بأهل الدين والمروءة ، ولا يبالي بسبب فاقته على أي حرام وثب . ( ومن شر فتنة المسيح ) : بالحاء المهملة وهو الأشهر ، وروي بالخاء المعجمة لأنه ممسوخ العين الواحدة كلها ، وبعض الأخرى ، ونسخ المشكاة المصححة المعتمدة بالحاء المهملة ، وعبارة ابن حجر بالحاء المهملة والمعجمة موهم فلا تغتر بها ، ولا تظن أنها نسخة ، بل هي رواية . ( الدجال ) : أي : كثير الفساد بدين العباد .

قال ابن بطال : وإنما تعوذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور تعليما لأمته ، فإن الله تعالى أمنه من جميع ذلك ، وبذلك جزم عياض . قال العسقلاني : أراد التعوذ من وقوع ذلك بأمته اهـ . أو المراد إظهار الافتقار والعبودية ; نظرا إلى استغنائه وكبريائه تعالى في مراتب الربوبية . ( اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ) : بفتحتين أي : طهرني من الذنوب بأنواع المغفرة كما تظهر هذه الأشياء المطهرة من الدنس .

قال ابن دقيق العيد : عبر بذلك عن غاية المحو ، فإن الثوب الذي يتكرر عليه بالمنقي يكون في غاية النقي . قال العسقلاني : كأنه جعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها مسببة عنها ، عبر عن إطفاء حرارتها بالغسل ، وبالغ فيه باستعمال المياه الباردة غاية البرودة ، ( ونق قلبي ) : أي : من الخطايا الباطنية وهي الأخلاق الذميمة والشمائل الردية ( كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس أي : الوسخ وفيه إيماء إلى أن القلب بمقتضى أصل الفطرة سليم ونظيف وأبيض وظريف وإنما يتسود بارتكاب الذنوب وبالتخلق بالعيوب ( وباعد ) مبالغة أبعد لأن المفاعلة إذا لم تكن للمغالبة فهي للمبالغة وهو في قوة التكرير أي : بعد ( بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ) قال العسقلاني : المراد بالمباعدة محو ما حصل منها والعصمة عما سيأتي وهو مجاز لأن حقيقة المباعدة إنما هي في الزمان والمكان ، وموقع التشبيه أن التقاء المشرق والمغرب مستحيل فكأنه أراد لا يبقي له منها أثرا أي بالكلية ، قال الكرماني : كرر لفظ بين لأن العطف على الضمير المجرور يعاد فيه الخافض ، وقال يحتمل أن يكون في الدعوات الثلاث الإشارة إلى الأزمنة الثلاثة ، فالغسل للماضي والتنقية للحال والمباعدة في الاستقبال ، وقال ابن دقيق العيد : يحتمل أن يكون المراد أن كل واحد من هذه الأشياء مجاز عن صفة يقع بها المحو كقوله " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا " ( متفق عليه ) ورواه الأربعة .

[ ص: 1706 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية