2492 - ( وعن ابن عمر قال قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه ) أي قل تركه لهم ( اللهم اقسم لنا ) أي اجعل لنا قسما ونصيبا ( من خشيتك ) وهو خوف مع التعظيم ( ما تحول به ) أي مقدارا تحجب أنت بسببه ( بيننا وبين معاصيك ) فإنه لا أمنع لها من خشية الله تعالى ، وما في الحديث نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه مبالغة في كماله ، بأن ترك عصيانه نشأ عن المحبة لا عن الرهبة مع الخشية أخص من الخوف كما أشرنا إليه وفي نسخة يحول بالتحتية ، وترك به أي قدرا يمنع بيننا وبينها من حال يحول حيلولة ، وأما قول ابن حجر أي بسببه أو هي باء الآلة وكلاهما مجاز فغير صحيح لأنه لا فرق بينهما في الحقيقة مع أن إطلاق الآلة في حق الله تعالى خطأ فاحش وأن المراد بالمجاز ضد الحقيقة باعتبار اللغة فقد صرح أربابها بأنهما حقيقتان في معنييهما ففي القاموس الباء للسببية " فكلا أخذنا بذنبه " " إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل " وللاستعانة نحو : كتبت بالقلم ونجرت بالقدوم ومنه باء البسملة اهـ .
وفي إيراد الأمثلة المذكورة تنبيه وتوجيه وجيه لما قلنا من صحة إطلاق السببية في فعله تعالى وفي فعل غيره بخلاف الآلة والاستعانة فإنه منزه - عز وجل - عن ذلك ( ومن طاعتك ) بإعطاء القدرة عليها والتوفيق لها ( ما تبلغنا ) بالتشديد أي توصلنا أنت ( به جنتك ) أي درجاتها العلية وأما قول ابن حجر : ( ما ) أي نصيبا وافرا يحصل لنا تبلغنا فظاهره أن تبلغنا بصيغة المصدر من باب التفعل وهو ظاهر الخطأ رواية ودراية ، ثم قوله بأن تدخلنا مع الناجين غير مناسب للمقام كما لا يخفى على الكرام من أرباب الفهوم على الكلام ، ( ومن اليقين ) أي اليقين بك وبأن لا مرد لقضائك وبأنه لا يصيبه إلا ما كتبته علينا وبأن ما قدرته لا يخلو عن حكمة ومصلحة مع ما فيه من مزيد المثوبة ، ( ما تهون به ) أي تسهل أنت بذلك اليقين ، ( علينا مصيبات الدنيا ) وفي رواية مصائب الدنيا فإن من علم يقينا أن مصيبات الدنيا مثوبات الأخرى لا يغتم بما أصابه ولا يحزن بما نابه ، وروي ما يهون علينا من غير به فيقتضي أن يكون يهون بالياء آخر الحروف وإثبات به يقتضي أن يكون بالتاء المثناة فوق ، ( ومتعنا ) أي اجعلنا متمتعين منتفعين ، ( بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ) بأن نستعملها في طاعتك ليكون لنا بها . [ ص: 1727 ] نفعا وقال ابن الملك - رحمه الله : التمتع بالسمع والبصر إبقاؤهما صحيحين إلى الموت ، وقيل : أراد بالسمع ما يسمع والعمل به ، وبالبصر اعتبار ما يرى وهكذا في سائر القوى ، ( ما أحييتنا ) أي مدة حياتنا قال الطيبي : وإنما خص السمع والبصر بالتمتع من الحواس لأن الدلائل الموصلة إلى معرفة الله وتوحيده إنما تحصل من طريقهما ، لأن البراهين إنما تكون مأخوذة من الآيات وذلك بطريق السمع ، أو من الآيات المنصوبة في الآفاق والأنفس ، فذلك بطريق البصر فسأل التمتع بهما حذرا من الانخراط في سلك الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ، ولما حصلت المعرفة بالأولين يترتب عليها العبادة ، فسأل القوة ليتمكن بها من عبادة ربه اهـ .
وبالآية والحديث في تقديم السمع على البصر إشارة إلى أفضليته ، خصوصا على قول الجمهور أنه لا تكليف قبل البعثة حتى في معرفة الله بالفعل مع وجود الآيات الآفاقية والأنفسية حينئذ ، مع أنه إذا خلق أبكم فيبعد أن يعرف الله تعالى بمجرد عقله ، وكذا بعد البعثة لا شك أن الانتفاع الديني بالسمع أكثر من الانتفاع بالبصر ، ولذا اتفقوا على قبول إيمان المقلد بخلاف إيمان صاحب الفترة ; فإنه لا يمكن تحققه إلا بالتوحيد المجرد فقط على ما قاله بعض علمائنا ، هذا والمراد بالقوة قوة سائر الأعضاء والحواس أو جميعها فيكون تعميما بعد تخصيص ، وأما قول ابن حجر : وبما تقرر علم وجه ذكر هذين دون بقية الحواس ، ثم رأيت الشارح صرح بما ذكرته فقال : وإنما خص السمع والبصر فمردود ; لأن مراد الطيبي أنه إنما خص السمع والبصر سابقا مع دخولهما في تعميم قوتنا لاحقا لا أنه إنما خصا بالذكر بمعنى أنه لم يذكر غيرها من القوى الظاهرية والباطنية ، فقال لأن الفرق دقيق وبالتأمل حقيق ، ( واجعله ) أي كل واحد منها يعني اجعل ما متعنا به ، ( الوارث ) أي الباقي ( منا ) بأن يبقى ما متعتنا به إلى الموت قال زين العرب الزمخشري أعاد الضمير إلى المصدر المحذوف أي اجعل الجعل أو جعلا الوارث من عشيرتنا ، فمنا مفعول ثان لجعل ، وقالالطيبي الضمير للمصدر أي اجعل الجعل ، والوارث هو المفعول الأول ومنا في موضع المفعول الثاني أي اجعل الوارث من نسلنا لا كلالة خارجة عنا قال صاحب كشف الكشاف وهو معنى مقصود للعقلاء حكاه تعالى عن زكريا - عليه الصلاة والسلام - في قوله فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب وهذا أولى لاستحقاقه بالفائدة فإن في قولنا متعنا بأسماعنا وأبصارنا ما يغني عن جعلها كالوارث ولأن الأصل عدم التأويل ويؤيده قوله أيضا رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين وأطال ابن حجر في تعقب هذا القول بما لا طائل تحته ، ولذا أعرضت عن ذكره وعن جواب اعتراضاته ، وقيل : الضمير للتمتيع وهو المفعول الأول والوارث هو الثاني ومنا صلته ، أي اجعل التمتيع باقيا منا ومأثورا فيمن بعدنا ، وقيل المعنى : وفقنا لحيازة العلم لا المال حتى يكون العلم هو الذي يبقى منا ، وقيل : الضمير للأسماع والأبصار والقوة بتأويل المذكور أي اجعل المذكور باقيا لازما عند الموت لزوم الوارث قال صاحب الكشف : يريد اجعلها سالمة لازمة معنا إلى الموت ، وبولغ فيه فقيل : اجعلها كأنها تبقى بعده ; لأن الوارث يبقى بعد الموت ، وقيل الضمير للتمتيع الذي دل عليه التمتيع والمعنى اجعل تمتعنا باقيا منا محفوظا لنا إلى يوم الحاجة ، وذكر الخطابي أنه سأل الله تعالى أن يبقي له السمع والبصر إذا أدركه الكبر ، وضعف منه سائر القوى ; ليكونا وارثي سائر القوى والباقين بعدها اهـ .
وفيه ما لا يخفى لأنه لما كان قوة السامعة والباصرة أنفع القوى خصهما بالذكر أولا ثم عمم ، وقيل الأولى أن المراد به أن لا ينقطع هذا الفيض الإلهي عنه وعن أتباعه لكونه رحمة للعالمين وهدى للمتقين ( واجعل ثأرنا ) بالهمز بعد المثلثة المفتوحة ، أي إدراك ثأرنا مقصورا ( على من ظلمنا ) ولا تجعلنا ممن تعدى في طلب ثأره فأخذ به غير الجاني كما كان معهودا في الجاهلية فنرجع ظالمين بعد أن كنا مظلومين ، وأصل الثأر الحقد والغضب ، يقال ثأرت القتيل وبالقتيل أي قتلت قاتله ، وأما قول ابن حجر من الثوران يقال ثار أي هاج غضبه فخطأ من حيث اللغة فإن ما نحن فيه مهموز العين والذي قاله معتل العين فلا اتحاد بينهما في المادة كما يشهد به القاموس والنهاية ، ولعله قرأ ثارنا بالألف أو كان في نسخته كذلك ، لكنه ليس بحجة فإن الهمزة الساكنة جاز إبدالها عند الكل ، أو اجعل إدراك ثأرنا على من ظلمنا فندرك فيكون بمعنى قوله ( وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ) [ ص: 1728 ] أي لا تصبنا بما ينقص ديننا من اعتقاد السوء وأكل الحرام والفترة في العبادة وغيرها ، ( ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ) أي لا تجعل طلب المال والجاه أكبر قصدنا أو حزننا ، بل اجعل أكبر قصدنا أو حزننا مصروفا في عمل الآخرة ، وفيه أن قليلا من الهم فيما لابد منه في أمر المعاش مرخص فيه ; بل مستحب ; بل واجب ، وأما قول ابن حجر وخرج بأكبر ما لو ساوى هم الخير وهم الدنيا ، أو نقص الثاني إذ صاحبه من أهل الجنة فلا يناسب الدعاء سيما من صاحب الحالة القوية ، والمرتبة العلية وتعليم الأمة بالزهد في الأمور المروية ، ثم أغرب حيث ترجح وتعبث ، كلام الطيبي تبجح ، ( ولا مبلغ علمنا ) أي غاية علمنا ، أي تجعلنا حيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أمور الدنيا ، بل اجعلنا متفكرين في أحوال الآخرة ، متفحصين من العلوم التي تتعلق بالله تعالى وبالدار الآخرة ، والمبلغ الغاية التي يبلغه الماشي والمحاسب فيقف عنده قال تعالى : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم وقال عز وجل يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وفي الحديث مدح من يكون بعكس حالهم من العلم بقوله : أكثر أهل الجنة البله ; أي لا يعلمون أمور الدنيا وهم بالآخرة عالمون موقنون ، ( ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) أي من القوم الكافرين ، أو من الأمراء الظالمين ، أو من السفهاء الجاهلين ، وقال الطيبي - رحمه الله : أي لا تجعلنا مغلوبين للكفار والظلمة ويحتمل أن يراد ، ولا تجعل الظالمين علينا حاكمين فإن الظالم لا يرحم الرعية ، ثم قال والأولى أن يحمل من لا يرحمنا على ملائكة العذاب في القبر لئلا يلزم التكرار مع قوله وانصرنا على من عادانا اهـ .
والأولى أن يحمل على المعنى الأعم فيكون تعميما بعد تخصيص لأنه على فرض التخصيص لا تخليص عن التكرار المستفاد من طلب الأمور السابقة من الخشية عن المعصية والطاعة ، وأما قول ابن حجر : من لا يرحمنا لكفر ، أو عتو ، أو بدعة ، أو محنة ، نحو مال يريده منا بأن تجعل له قوة وشوكة يتمكن بها على ما يريده منا ، فكله داخل تحت قوله : من عادانا ، فلا يصح قوله وبما قررته يعلم أن قوله وانصرنا على من عادانا لا يغني عن هذا ، خلافا لمن زعمه .
ثم قوله وإنما سألوا ذلك لضعفهم عن احتمال فتنة الصبر عن الأذية ، خطأ فاحش فإن السائل هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه الكاملون النازل في حقهم قوله تعالى : والصابرين في السراء والضراء وحين البأس وإنما سأل الأشياء كلها إظهارا للعبودية ، وإيماء إلى أن العافية أوسع من الابتلاء بالبلية ، وهذا كله قبل وقوع البلاء وأما بعده فيحكم قوله تعالى : وما صبرك إلا بالله خطابا له واصبروا إن الله مع الصابرين فيرجعون إليه تعالى بطلب التحمل ، ويدعون حينئذ بقولهم ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين ( رواه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب ) ورواه nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري .