وتحمل رواية البخاري : فلما كانت الرابعة ، على عمرة الحديبية جمعا بين الحديثين ، أو يحمل كلام كل راو على ما سمع به ، وتحقق عنده والله - تعالى - أعلم . [ ص: 1830 ] قال الطيبي - رحمه الله : وإنما خص المحلقين أولا بالدعاء دون المقصرين ، وهم الذين أخذوا من أطراف شعورهم ، ولم يحلقوا ؛ لأن أكثر من أحرم معه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن معه هدي ، وكان - عليه الصلاة والسلام - قد ساق الهدي ، ومن معه الهدي ، فإنه لا يحلق حتى ينحر هديه ، فلما أمر من ليس معه هدي أن يحلق ويحل ، ووجدوا في أنفسهم من ذلك ، وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج ، وكانت طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى لهم ، فلما لم يكن لهم بد من الإحلال كان التقصير في نفوسهم أخف من الحلق ، فمال أكثرهم إليه ، وكان فيهم من بادر إلى الطاعة وحلق ، ولم يراجع ، فلذا قدم المحلقين ، وأخر المقصرين اهـ .
ولا يخفى أنه - عليه الصلاة والسلام - إنما أمرهم بالتحلل لا بخصوص الحلق ، وإنما اختاروا القصر لقرب الزمان من الوقوف إبقاء للشعر للحلق ، أو القصر بعد الحج ، وجمعا بين العملين ، وهما الرخصة ، والعزيمة ، والرخصة أولى بعد العمرة ، وأما المقصرين في الحج ، فعملوا بالرخصة إبقاء في شعرهم للزينة ، بخلاف المحلقين ، فإنهم اختاروا العزيمة في القضية ، فاستحقوا الأفضلية ، ولأنه أدل على صدق النية ، وحسن الطوية ، والتذلل في مقام العبودية .
وأما قول النووي : ووجه أفضلية الحلق أن المقصر أبقى على نفسه الزينة لشعره ، والحاج مأمور بترك الزينة ، فغريب منه ، وكذا استحسان ابن حجر منه عجيب ، فإن الحاج ليس مأمورا بترك الزينة بعد فراغ الحجة ، أو العمرة ، ثم هذا كله لا ينافي ما حكاه عياض ، عن بعضهم ، أنه كان بالحديبية حين أمرهم بالحلق ، فلم يفعلوا طمعا بدخول مكة يومئذ ، إلا أن قولهم : " أمرهم بالحلق " فغير محفوظ ، وإنما أمرهم بالتحلل ، فاختار بعضهم الحلق لأنه الأفضل ، واختار آخرون القصر حتى يحلقوا في العام المقبل جمعا بين القضيتين ، وحيازة للفضيلتين .