صفحة جزء
3392 - ( وعن جابر أن رجلا من الأنصار دبر مملوكا ) ولم يكن له مال غيره فبلغ النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : من يشتريه مني ؟ فاشتراه نعيم ابن النحام بثمانمائة درهم . متفق عليه .

وفي رواية لمسلم : فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي بثمانمائة درهم ، فجاء بها إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فدفعها إليه ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ، يقول : فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك اقض دينك .


3392 - ( وعن جابر أن رجلا من الأنصار دبر مملوكا ) : أي : قال مثلا : عبدي دبر موتي حر ( ولم يكن له مال غيره ) : بالرفع ( بلغ ) : أي : ذلك ( النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال : ( من يشتريه مني ؟ فاشتراه نعيم ) : بالتصغير ( ابن النحام ) : بفتح النون وتشديد الحاء المهملة على ما ضبطه المؤلف وغيره . قال النووي في شرح مسلم : قوله فاشتراه نعيم بن عبد الله ، وفي رواية : فاشتراه ابن النحام بالنون المفتوحة والحاء المهملة ، هكذا هو في جميع النسخ . قالوا : وهو غلط ، وصوابه فاشتراه النحام ، فإن المشتري هو نعيم وهو النحام ، وسمي بذلك لقول النبي - عليه الصلاة والسلام - ( دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة لنعيم ) والنحمة : الصوت ، وقيل : هي السعلة ، وقيل : النحنحة . قال الحافظ العسقلاني في رواية ابن المنكدر كما في الاستقراض : نعيم ابن النحام هو نعيم بن عبد الله ، والنحام بالنون والحاء المهملة الثقيلة لقب نعيم ، وظاهر الرواية أنه لقب أبيه . قال النووي : هو غلط لقوله - عليه الصلاة والسلام - " دخلت الجنة فسمعت فيها نحمة من نعيم ) لكن الحديث المذكور من رواية الواقدي وهو ضعيف ، فلا ترد به الرواية الصحيحة ، فلعل أباه أيضا كان يقال له : النحام ، ونعيم المذكور هو ابن عبد الله بن أسيد بفتح أوله ، أسلم قديما قبل عمر ، فكتم إسلامه وأراد الهجرة ، فسأله بنو عدي أن يقيم على أي دين شاء لأنه كان ينفق على أيتامهم ، ثم هاجر عام الحديبية ومعه أربعون من أهل بيته ، واستشهد في فتوح الشام . ( بثمانمائة درهم ) : بكسر النون ( متفق عليه . وفي رواية لمسلم : فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي ) : بفتحتين منسوب إلى بني عدي قوم عمر - رضي الله تعالى عنه - ( بثمانمائة درهم ، فجاء بها إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فدفعها إليه ثم قال : ( ابدأ بنفسك ) : أي في الإنفاق ( فتصدق عليها ) : أي : فإنها أحق بها وأهلها فإنها مركب الروح في سلوكها ( فإن فضل ) : بفتح العين أي زاد ( شيء ) : أي منها ( فلأهلك ) : أي : مما يعولك ( فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك ) : أي : إما وجوبا أو استحبابا ( فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا ) : قال الطيبي رحمه الله : جواب للشرط كناية عن التفريق أشتاتا على من جاءه عن يمينه وشماله وأمامه ( يقول ) : أي : الراوي ( بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ) : تفسير للتفريق ، وهكذا نصب على المصدر . في شرح السنة : اختلفوا في تدبير المدبر فأجاز جماعة الإطلاق ، وإليه ذهب الشافعي وأحمد ، وروي عن عائشة رضي الله عنها : أنها باعت مدبرة لها سحرتها ، فأمرت ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب من يسيء ملكتها . وقال جماعة : لا يجوز بيعه إذا كان التدبير مطلقا ، وهو أن يقول : إذا مت فأنت حر من غير أن يقيد بشرط أو زمان ، وقاسوا المدبر على أم الولد لتعلق عتق كل واحد منهما بموت المولى على الإطلاق ، وتأولوا هذا الحديث على التدبير المقيد ، وهو أن يقول : إن مت من مرضي هذا أو في شهري هذا فأنت حر ، فإنه يجوز بيع هذا المدبر عندهم والأول أولى ; لأن الحديث جاء في بيع المدبر ، وإذا أطلق يفهم منه التدبير المطلق لا غيره وليس كأم الولد ; لأن سبب العتق في أم الولد أشد تأكيدا منه في المدبر ، وبدليل أن استغراق التركة بالدين لا يمنع عتق أم الولد ، ويمنع عتق المدبر ، وأن أم الولد تعتق من رأس المال ، والمدبر عتقه من الثلث ، فظهر الفرق بينهما ، واتفقوا على جواز وطء المدبرة كما يجوز وطء أم الولد . قال النووي رحمه الله : في هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي رحمه الله وموافقيه ، أنه يجوز بيع المدبر قبل موت سيده لهذا الحديث وقياسا على الموصى بعتقه ، فإنه يجوز بيعه بالإجماع . وقال أبو حنيفة ومالك [ ص: 2224 ] وجمهور العلماء والسلف من الحجازيين والشاميين والكوفيين رحمهم الله تعالى أجمعين : لا يجوز بيع المدبر ، قالوا : وإنما باعه النبي - عليه الصلاة والسلام - في دين كان على سيده ، وقد جاء في رواية النسائي والدارقطني أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : ( اقض دينك ) .

قال ابن الهمام : التدبير لغة النظر في عواقب الأمور ، وشرعا العتق الموقع بعد الموت معلقا بالموت مطلقا لفظا أو معنى . قال صاحب الهداية : فإذا قال الرجل لمملوكه : إذا مت فأنت حر ، أو أنت حر عن دبر مني ، أو أنت مدبر ، أو دبرتك ، فقد صار مدبرا ; لأن هذه الألفاظ صريحة في التدبير ، فإنه أي التدبير إثبات العتق عن دبر ، وهذه تفيد ذلك بالوضع ، ثم لا يجوز بيعه المدبر المطلق ، وهو الذي علق عتقه بمطلق موت المولى ولا هبته ولا إخراجه عن ملكه إلا لحرية بلا بدل أو لكتابة أو عتق ذلك على مال ، وما سواه من التصرفات التي لا تبطل حقه في الحرية تجوز ، فيجوز استخدامه وإجارته ، وأخذ أجرته ، وتزويج المدبرة ووطؤها وأخذ مهرها وأرش جنايتها ; لأن الملك فيه ثابت وبه يستفاد ولاية هذه التصرفات .

وقال الشافعي : يجوز بيعه وهبته لما في الصحيحين من حديث جابر : أن رجلا أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره ، فباعه النبي - عليه الصلاة والسلام - بثمانمائة درهم ، ثم أرسل بثمنه إليه . وفي لفظ : أعتق رجل من الأنصار غلاما عن دبر ، وكان محتاجا وعليه دين ، فباعه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - بثمانمائة درهم فأعطاه وقال : ( اقض دينك ) . قال ابن الهمام : ولحديث جابر هذا ألفاظ كثيرة ، وروى أبو حنيفة رحمه الله بسنده : أن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - باع المدبر ، وفي موطأ مالك بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أنها مرضت فتطاول مرضها ، فذهب بنو أختها فذكروا مرضها إلى طبيب فقال : إنكم تخبروني عن امرأة مطبوبة . قال : فذهبوا ينظرون ، فإذا جارية لها سحرتها ، وكانت قد دبرتها فدعتها ثم سألتها : ماذا أردت ؟ فقالت : أردت أن تموتي حتى أعتق .

قالت : فإن لله علي أن تباعي من أسوأ العرب ملكة ، فباعتها وأمرت بثمنها ، فجعل في مثلها . رواه الحاكم وقال : على شرط الشيخين . والجواب أنه لا شك أن الحر كان يباع في ابتداء الإسلام على ما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - باع رجلا يقال له شرف في دينه ، ثم نسخ ذلك بقوله : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ذكره في الناسخ والمنسوخ ، فلم تكن فيه دلالة على جواز بيعه الآن بعد النسخ ، وإنما يفيد استصحاب ما كان ثابتا من جواز بيعه قبل التدبير ، إذ لم يوجب التدبير زوال الرق عنه ، ثم رأينا أنه صح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : لا يباع المدبر ولا يوهب وهو حر من ثلث المال ، وقد رفعه إلى رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لكن ضعف الدارقطني رفعه ، وصحح وقفه .

قال ابن الهمام : فعلى تقدير الرفع لا إشكال ، وعلى تقدير الوقف فقول الصحابة حينئذ لا يعارضه النص ألبتة ، لأنه واقعة حال لا عموم لها ، وإنما يعارضه لو قال يباع المدبر ، فإن قلنا بوجوب تقليده فظاهر ، وعلى عدم تقليده يجب أن يحمل على السماع ; لأن منع بيعه على خلاف القياس ، فبطل ما قيل : حديث ابن عمر لا يصلح لمعارضة حديث جابر ، وأيضا : ثبت عن أبي جعفر أنه ذكر عنده أن عطاء وطاوسا يقولان عن جابر في الذي أعتقه مولاه في عهد رسول الله - عليه الصلاة والسلام - كان عتقه عن دبره ، فأمره أن يبيعه فيقضي دينه ، الحديث .

فقال أبو جعفر : شهدت الحديث من جابر ، إنما أذن في بيع خدمته ، رواه الدارقطني عن عبد الغفار بن القاسم رحمه الله الكوفي ، عن أبي جعفر ، وقال أبو جعفر : هذا وإن كان من الثقات الأثبات ، ولكن حديثه هذا مرسل .

وقال ابن القطان : هو مرسل صحيح ، لأنه من رواية عبد الملك بن أبي سليمان العوفي وهو ثقة عن أبي جعفر اهـ .

[ ص: 2225 ] فلو تم تضعيف عبد الغفار لم يضر لكن الحق عدمه ، وإن كان متشيعا فقد صرح أبو جعفر وهو محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين ، بأنه شهد حديث جابر وأنه أجاز لنا في بيع منافعه ، ولا يمكن لثقة إمام ذلك إلا لعلمه ذلك من جابر راوي الحديث .

وقال ابن العربي : قول من قال : يحمل الحديث على المدبر المقيد ، أو أن المراد أنه باع خدمة العبد من باب دفع الصائل ; لأن النص مطلق فيجب العمل به إلا لمعارضة نص آخر يمنع من العمل بطلاقه ، فأنت إذا علمت أن الحر كان يباع للدين ثم نسخ ، وأن في قوله في الحديث باع مدبرا ليس إلا حكاية الراوي نقلا جزئيا لا عموم لها ، وأن قوله : عتق عن دبر ، أو دبر أعم من المطلق والمقيد ، إذ يصدق على الذي دبر مقيدا أنه أعتق عن دبر منه ، وأن ما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - موقوف صحيح ، وحديث أبي جعفر مرسل تابعي ثقة ، وقد أقمنا الدلالة على وجوب قبول المرسل وتقديمه على المسند بعد أنه قول جمهور السلف ، علمت قطعا أن المرسل حجة موجبة ، بل سالمة عن المعارض ، وكذا قول ابن عمران لم يصح رفعه بعضده ولا يعارضه المروي عن عائشة رضي الله عنها ، لجواز أن يكون تدبيرها مقيدا لأنه أيضا واقعة حال لا عموم لها ، فلم يتناول حديث جابر وعائشة - رضي الله عنهما - محل نزاع ألبتة ، فكيف ووجب حمله على السماع لما ذكرنا ، ثم قال : وإن علق التدبير بموته على صفة مثل أن يقول : إن مت من مرضي هذا ، أو سفري هذا ، أو مرض كذا ، أو قتلت ، أو غرقت فليس بمدبر ، ويجوز بيعه ; لأن التسمية لم تنعقد في الحال للتردد في تلك الصفة هل تقع أم لا ؟ بخلاف المدبر المطلق ; لأن تعلق عتقه بمطلق الموت وهو كائن لا محالة ، ثم إن مات المولى على الصفة التي ذكرناها عتق كما يعتق المدبر يعني من الثلث لأنه يثبت حكم التدبير له في آخر جزء من أجزاء حياته بتحقق تلك الصفة فيه ، فإذ ذلك يصير مدبرا مطلقا لا يجوز بيعه ، بل لا يمكن ، وإن برئ من ذلك المرض ، أو رجع من ذلك السفر ، ثم مات لم يعتق ; لأن الشرط الذي علق به قد انعدم .

التالي السابق


الخدمات العلمية