صفحة جزء
3796 - وعنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من خير معاش الناس لهم ، رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله ، يطير على متنه ، كلما سمع هيعة ، أو فزعة ، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه ، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف ، أو بطن واد من هذه الأودية ، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين ; ليس من الناس إلا في خير " . رواه مسلم .


3796 - ( وعنه ) : أي أبي هريرة رضي الله عنه ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله ) : قال القاضي : المعاش المتعيش به يقال : عاش الرجل معاشا ومعيشا وما يعاش به ، فيقال له معاش ومعيش . وفي الحديث : يصح تفسيره بهما ; أي بالمعنيين ورجل بالابتداء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ; أي معاش رجل هذا شأنه من خير معاشهم النافع لهم . ( يطير على متنه ) : أي يسرع راكبا على ظهره مستعار من طيران الطائر ( كلما سمع هيعة ) : بفتح هاء وسكون تحتية ; أي صيحة يفزع منها ويجبن ، من : هاع يهيع إذا جبن ( أو فزعة ) : أي مرة من الاستغاثة وأو للتنويع . قال الطيبي : الفزعة فسر هنا بالاستغاثة من فزع إذا استغاث ، وأصل الفزع شدة الخوف ( وطار عليه ) : أي أسرع راكبا على فرسه طائرا إلى الهيعة ، أو الفزعة ( يبتغي القتل والموت مظانه ) ، بدل اشتمال من الموت والأكثر على أنه ظرف يبتغي وهو استئناف مبين لحاله ، أو حال من فاعل طار . قال الطيبي : أي لا يبالي ولا يحترز منه ، بل يطلبه حيث يظن أنه يكون في مظانه جمع مظنة ، وهي الموضع الذي يعهد فيه الشيء ، ويظن أنه فيه ، ووحد الضمير في مظانه إما لأنه الحاصل ، والمقصود منها واحد ، أو لأنه اكتفى بإعادة الضمير إلى الأقرب ، كما اكتفى بها في قوله تعالى : ( [ ص: 2460 ] والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) قلت : وفي كثير من الروايات بأو فإفراده على القياس ، ويمكن جعل الواو بمعنى أو لتجتمع الروايات . ( أو رجل في غنيمة ) : أي في معاشه ، والظرف متعلق به إن جعل مصدرا ، أو بمحذوف هو صفة لرجل ، وغنيمة تصغير غنم ، وهو مؤنث سماعي ، ولذلك صغرت بالتاء ، والمراد قطعة غنم ( في رأس شعفة ) . بفتحتين ; أي رأس جبل ( من هذه الشعف ) ، يريد به الجني لا العهد ( أو بطن واد ) : أي في بطن واد ( من هذه الأودية ، يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ) : أي إن كانت عليه ( ويعبد ربه ) : تعميم بعد تخصيص ( حتى يأتيه اليقين ) ; أي الموت سمي به ; لأنه لا شك في تحقيق وقوعه . وقال الغزالي : الموت يقين يشبه الشك ( ليس ) : أي كل واحد من الرجلين ، أو الثاني ، وهو أقرب ( من الناس ) : أي من أمورهم ( إلا في خير ) ; أي في أمر خير .

قال الطيبي ، قوله : هذه في الموضعين للتحقير نحو قوله تعالى : ( وما هذه الحياة الدنيا ) ومن ثم صغر غنيمة وصفا لقناعة هذا الرجل بأنه يسكن في أحقر مكان ، ويجتزئ بأدنى قوت ويعتزل الناس شره ، ويستكفي شرهم عن نفسه ، ويشتغل بعبادة ربه حتى يجيئه الموت ، وعبر عن الموت باليقين ليكون نصب عينه مزيدا للتسلي ، فإن في ذكرها ذم اللذات ما يعرضه عن أغراض الدنيا ويشغله من ملاذها بعبادة ربه ، ألا ترى كيف سلى حبيبه صلوات الله عليه وسلامه حين لقي ما لقي عن أذى الكفار بقوله : ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون ) إلى قوله : ( حتى يأتيك اليقين ) قال النووي : في الحديث دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الخلطة ، وفي ذلك خلاف مشهور ، فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ، ومذهب طوائف من الزهاد أن الاعتزال أفضل ، واستدلوا بالحديث ، وأجاب الجمهور بأنه محمول على زمان الفتن والحروب ، أو فيمن لا يسلم الناس منه ، ولا يصبر على أذاهم ، وقد كانت الأنبياء صلوات الله عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين ، ويحصلون منافع الاختلاط بشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المريض وحلق الذكر وغير ذلك .

قال الطيبي : وفي تخصيص ذكر المعاش تلميح ، فإن العيش المتعارف من أنباء الدهر هو استيفاء اللذات والانهماك في الشهوات ، كما سميت البيداء المهلكة بالمفازة والمنجاة واللديغ بالسليم ، وتلميح إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة " وفيه أن لا عيش ألذ وأمر ، أو أشهى وأهنأ مما يجد من طاعة ربه ، ويستروح إليها حتى يرفع تكاليفها ومشاقها عنه ، بل إذا فقد ما كان أصعب عليه مما إذا وتر أهله وماله ، وإليه ينظر قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أرحنا يا بلال " وقوله : " وجعل قرة عيني في الصلاة " وتعريض بذم عيش الدنيا ، وجماع معنى الحديث الحث على مجاهدة أعداء الدين ، وعلى مخالفة النفس والشيطان والإعراض عن استيفاء اللذات العاجلة . ( رواه مسلم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية