في النهاية : البيان إظهار المقصود بأبلغ لفظ ، وهو من الفهم وذكاء القلب ، وأصله الكشف والظهور . وقالالراغب : الشعر معروف ، وشعرت أصبت الشعر ، ومنه استعير شعرت كذا أي : علمت علما في الدقة كإصابة الشعر قيل : وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته ، كالشعر في الأصل اسم للعلم الدقيق في قولهم : ليت شعري ، وصار في التعارف أسماء للموزون المقفى من الكلام ، والشاعر للمختص بصناعته اهـ . وقال بعضهم : الشعر كلام مقفى موزون قصدا ليخرج ما وقع في القرآن ، أو كلام النبوة . قلت : لكن يشكل مع هذا في الكلام الإلهي لعدم تصور نفي الإرادة فيه ، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، اللهم إلا أن يقال بأن وقوعه غير مقصود بالذات كما ذكروا في قوله صلى الله عليه وسلم : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10365210والخير بيديك والشر ليس إليك " .
والأظهر أنه ذو وجهين ، والمعنى أن بعض البيان بمنزلة السحر في ميلان القلوب له ، أو في العجز عن الإتيان بمثله ، وهذا النوع ممدوح إذا صرف إلى الحق كمذمة الخمر مثلا ومذموم إذا صرف إلى الباطل كمدحها مثلا . وفي شرح السنة : اختلفوا في تأويله ، فمنهم من حمله على الذم ، وذلك أنه ذم التصنع في الكلام والتكلف لتحسينه ليروق للسامعين قوله ، وليستميل به قلوبهم ، وأصل السحر في كلامهم الصرف ، وسمي السحر سحرا ؛ لأنه مصروف عن جهته ، فهذا المتكلم ببيانه يصرف قلوب السامعين إلى قبول قوله ، وإن كان غير حق ، أو المراد من صرف الكلام فضله ، وما يتكلف الإنسان من الزيادة فيه من وراء الحاجة قد يدخله الرياء ويخالطه الكذب ، وأيضا قد يحيل الشيء عن ظاهره ببيانه ويزيله عن موضعه للسانه إرادة التلبيس عليهم ، فيصير بمنزلة السحر الذي هو تخييل ! لا حقيقة له ، وقيل : أراد به أن من البيان ما يكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بسحره ، وقيل : معناه الرجل يكون عليه الحق ، وهو ألحن بحجته من صاحب الحق ، فيسحر القوم ببيانه ، فيذهب بالحق ، وشاهده قول النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=10365213إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض . الحديث . وذهب آخرون إلى أن المراد منه مدح البيان ، والحث على تحسين الكلام وتحبير الألفاظ ؛ لأن إحدى القرينتين وهو قوله : إن من الشعر حكما على طريق المدح ، فكذلك القرينة . الأخرى . وقال شارح : هذا وارد للذم أي : إن من البيان نوعا يحل من العقول والقلوب محل السحر ، فإن الساحر بسحره يزين الباطل في عين المسحور ، حتى يراه حقا ، وكذا المتكلم بمهارته في البيان ، وتفننه في البلاغة وترصيف النظم يسلب عقل السامع ويشغله عن التفكر فيه
[ ص: 3012 ] والتدبر له ، حتى يخيل إليه الباطل حقا والحق باطلا ، فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن جنس البيان ، وإن كان محمودا ، كان فيه ما يذم للمعنى الذي ذكرناه ، وإن جنس الشعر وإن كان مذموما فإن فيه ما يحمد لاشتماله على الحكم ، وهو ما فيه موعظة وثناء لله ورسوله ، وزهد في الدنيا ورغبة في الآخرة .
وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز أن رجلا طلب إليه حاجة كان يتعذر عليه إسعافه بها ، فاستمال قلبه بالكلام ، فأنجزها له ، ثم قال : هذا هو السحر الحلال . وقال الطيبي : من للتبعيض والكلام فيه تشبيه ، وحقه أن يقال : إن بعض البيان كالسحر ، فقلت وجعل الخبر مبتدأ مبالغة في جعل الأصل فرعا والفرع أصلا ، ووجه الشبه أنه يتغير بتغير إرادة المدح والذم . ( رواه البخاري ) : وكذا مالك وأحمد وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي ، ورواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس بلفظ : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10365214إن من البيان سحرا وإن من الشعر حكما " .