فيه مسائل : الأولى : قد يدل الحديث على انقسام الذنوب إلى صغائر وكبائر وعليه أيضا يدل قوله تعالى { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وفي الاستدلال بهذا الحديث على ذلك نظر ; لأن من قال " كل ذنب كبيرة " فالكبائر والذنوب عنده متواردان على شيء واحد فيصير كأنه قيل : ألا أنبئكم بأكبر الذنوب . وعن بعض السلف : أن كل ما نهى الله عز وجل عنه فهو كبيرة . وظاهر القرآن والحديث : على خلافه ولعله أخذ " الكبيرة " باعتبار الوضع اللغوي ونظر إلى عظم المخالفة للأمر والنهي وسمى كل ذنب كبيرة .
الثانية : يدل على انقسام الكبائر في عظمها إلى كبير وأكبر ، لقوله عليه السلام " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ " وذلك بحسب تفاوت مفاسدها ولا يلزم من كون هذه أكبر الكبائر : استواء رتبها أيضا في نفسها فإن الإشراك بالله : أعظم كبيرة من كل ما عداه من الذنوب المذكورة في الأحاديث التي ذكر فيها الكبائر .
الثالثة : اختلف الناس في الكبائر فمنهم من قصد تعريفها بتعدادها وذكروا في ذلك أعدادا من الذنوب ، ومن سلك هذه الطريقة فليجمع ما ورد في ذلك في الأحاديث ، إلا أنه لا يستفيد بذلك الحصر ومن هذا قيل : إن بعض السلف قيل له " إنها سبع " فقال " إنها إلى السبعين أقرب منها إلى السبع " . ومنهم من سلك طريق الحصر بالضوابط فقيل عن بعضهم : إن كل ذنب قرن به وعيد أو لعن ، أو حد : فهو من الكبائر ، فتغيير منار الأرض : كبيرة لاقتران اللعن به وكذا قتل المؤمن ، لاقتران الوعيد به والمحاربة ، والزنا ، والسرقة والقذف ، كبائر ، لاقتران الحدود بها ، واللعنة ببعضها . وسلك بعض المتأخرين طريقا فقال : إذا أردت معرفة الفرق بين الصغائر والكبائر : فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر ، فهي من الصغائر وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر ، أو أربت عليه فهي من الكبائر ، وعد [ ص: 658 ] من الكبائر : شتم الرب تبارك وتعالى ، أو الرسول ، والاستهانة بالرسل ، وتكذيب واحد منهم ، وتضميخ الكعبة بالعذرة وإلقاء المصحف في القاذورات فهذا من أكبر الكبائر ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة . وهذا الذي قاله داخل عندي فيما نص عليه الشرع بالكفر إن جعلنا المراد بالإشراك بالله : مطلق الكفر ، على ما سننبه عليه ، ولا بد مع هذا - من أمرين :
أحدهما : أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر فإنه قد يقع الغلط في ذلك . ألا ترى أن السابق إلى الذهن : أن مفسدة الخمر : السكر وتشويش العقل ؟ فإن أخذنا هذا بمجرده لزم منه أن لا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة ، لخلائها عن المفسدة المذكورة ، لكنها كبيرة فإنها - وإن خلت عن المفسدة المذكورة - إلا أنه يقترن بها مفسدة الإقدام والتجري على شرب الكثير الموقع في المفسدة فبهذا الاقتران تصير كبيرة .
والثاني : أنا إذا سلكنا هذا المسلك فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى بعض الكبائر مساويا لبعض الكبائر ، أو زائدا عليها ، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها ، أو مسلما معصوما لمن يقتله فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال الربا ، أو أكل مال اليتيم وهما منصوص عليهما ، وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تفضي إلى قتلهم ، وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم كان ذلك أعظم من فراره من الزحف ، والفرار من الزحف منصوص عليه دون هذه ، وكذلك تفعل - على هذا القول الذي حكيناه من أن الكبيرة ما رتب عليها اللعن ، أو الحد ، أو الوعيد - فتعتبر المفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه شيء من ذلك ، فما ساوى أقلها ، فهو كبيرة وما نقص عن ذلك فليس بكبيرة .
الرابعة : قوله عليه السلام " الإشراك بالله " يحتمل أن يراد به : مطلق الكفر ، فيكون تخصيصه بالذكر لغلبته في الوجود ، لا سيما في بلاد العرب ، فذكر تنبيها على غيره . ويحتمل أن يراد به : خصوصه ، إلا أنه يرد على هذا الاحتمال : أنه قد يظهر أن بعض الكفر أعظم قبحا من الإشراك ، وهو كفر التعطيل . فبهذا يترجح الاحتمال الأول .
الخامسة : عقوق الوالدين معدود من أكبر الكبائر في هذا الحديث ولا [ ص: 659 ] شك في عظم مفسدته ، لعظم حق الوالدين إلا أن ضبط الواجب من الطاعة لهما ، والمحرم من العقوق لهما : فيه عسر ، ورتب العقوق مختلفة قال شيخنا الإمام أبو محمد بن عبد السلام : ولم أقف في عقوق الوالدين ، ولا فيما يختصان به من الحقوق ، على ضابط أعتمد عليه . فإن ما يحرم في حق الأجانب : فهو حرام في حقهما ، وما يجب للأجانب : فهو واجب لهما فلا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به ، ولا في كل ما ينهيان عنه باتفاق العلماء ، وقد حرم على الولد السفر إلى الجهاد بغير إذنهما ، لما يشق عليهما من توقع قتله ، أو قطع عضو من أعضائه ، ولشدة تفجعهما على ذلك وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه ، أو على عضو من أعضائه وقد ساوى الوالدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى . انتهى كلامه .
والفقهاء قد ذكروا صورا جزئية ، وتكلموا فيها منثورة ، لا يحصل منها ضابط كلي فليس يبعد أن يسلك في ذلك ما أشرنا إليه في الكبائر ، وهو أن تقاس المصالح في طرف الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها ، والمفاسد في طرف العدم بالمفاسد التي حرمت لأجلها .
السادسة : اهتمامه عليه السلام بأمر شهادة الزور ، أو قول الزور : يحتمل أن تكون ; لأنها أسهل وقوعا على الناس ، والتهاون بها أكثر ، فمفسدتها أيسر وقوعا ، ألا ترى أن المذكور معها : هو الإشراك بالله ولا يقع فيه مسلم ، وعقوق الوالدين والطبع صارف عنه ؟ وأما قوله : " الزور " فإن الحوامل عليه كثيرة ، كالعداوة وغيرها فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها وليس ذلك لعظمها بالنسبة إلى ما ذكر معها ، وهو الإشراك قطعا . " وقول الزور ، وشهادة الزور " ينبغي أن يحمل قوله : " الزور " على شهادة الزور ، فإنا لو حملناه على : الإطلاق : لزم أن تكون الكذبة الواحدة مطلقا كبيرة ، وليس كذلك ، وقد نص الفقهاء على أن الكذبة الواحدة وما [ ص: 660 ] يقاربها لا تسقط العدالة ولو كانت كبيرة لأسقطت ، وقد نص الله تعالى على عظم بعض الكذب فقال : { ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا } وعظم الكذب ومراتبه تتفاوت بحسب تفاوت مفاسده ، وقد نص في الحديث الصحيح على أن الغيبة والنميمة كبيرة ، والغيبة عندي : تختلف بحسب المقول والمغتاب به ، فالغيبة بالقذف كبيرة ، لإيجابها الحد ، ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلا ، أو قبح بعض الهيئة في اللباس مثلا والله أعلم .