هذا أحد الأحاديث العظام التي عدت من أصول الدين ، فأدخلت في الأربعة الأحاديث التي جعلت أصلا في هذا الباب . وهو أصل كبير في الورع ، وترك المتشابهات في الدين
والشبهات لها مثارات منها : الاشتباه في الدليل الدال على التحريم أو التحليل ، أو تعارض الأمارات والحجج ولعل قوله عليه السلام " لا يعلمهن كثير من الناس " إشارة إلى هذا المثار ، مع أنه يحمل أن يراد : لا يعلم عينها ، وإن علم [ ص: 662 ] حكم أصلها في التحليل والتحريم . وهذا أيضا من مثار الشبهات . وقوله عليه السلام " من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " أصل في الورع وقد كان في عصر شيوخ شيوخنا بينهم اختلاف في هذه المسألة ، وصنفوا فيها تصانيف ، وكان بعضهم سلك طريقا في الورع فخالفه بعض أهل عصره وقال : إن كان هذا الشيء مباحا - والمباح ما استوى طرفاه - فلا ورع فيه ; لأن الورع ترجيح لجانب الترك والترجيح لأحد الجانبين مع التساوي محال ، وجمع بين المتناقضين ، وبنى على ذلك تصنيفا . والجواب عن هذا عندي من وجهين :
أحدهما : أن المباح قد يطلق على ما لا حرج في فعله ، وإن لم يتساو طرفاه وهذا أعم من المباح المتساوي الطرفين فهذا الذي ردد فيه القول . وقال : إما أن يكون مباحا أو لا فإن كان مباحا فهو مستوي الطرفين يمنعه إذا حملنا المباح على هذا المعنى ، فإن المباح قد صار منطلقا على ما هو أعم من المتساوي الطرفين ، فلا يدل اللفظ على التساوي ، إذ الدال على العام لا يدل على الخاص بعينه .
الثاني : أنه قد يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته ، راجحا باعتبار أمر خارج ولا يتناقض حينئذ الحكمان . وعلى الجملة : فلا يخلو هذا الموضع من نظر فإنه إن لم يكن فعل هذا المشتبه موجبا لضرر ما في الآخرة ، وإلا فيعسر ترجيح تركه ، إلا أن يقال : إن تركه محصل لثواب أو زيادة درجات وهو على خلاف ما يفهم من أفعال الورعين فإنهم يتركون ذلك تحرجا وتخوفا ، وبه يشعر لفظ الحديث .
وقوله عليه السلام " ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام " يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه إذا عود نفسه عدم التحرز مما يشتبه : أثر ذلك استهانة في نفسه ، توقعه في الحرام مع العلم به .
والثاني : أنه إذا تعاطى الشبهات : وقع في الحرام في نفس الأمر ، فمنع من تعاطي الشبهات لذلك . [ ص: 663 ]
وقوله عليه السلام " كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه " من باب التمثيل والتشبيه " ويوشك " بكسر الشين بمعنى : يقرب " والحمى " المحمي ، أطلق المصدر على اسم المفعول . وتنطلق المحارم على المنهيات قصدا ، وعلى ترك المأمورات التزاما ، وإطلاقها على الأول أشهر ، وقد عظم الشارع أمر القلب لصدور الأفعال الاختيارية عنه ، وعما يقوم به من الاعتقادات والعلوم ، ورتب الأمر فيه على المضغة ، والمراد المتعلق بها ولا شك أن صلاح جميع الأعمال باعتبار العلم أو الاعتقاد بالمفاسد والمصالح .