قال أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بالقزاز - في كتاب تفسير غريب صحيح nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري " الفطرة " تنصرف في كلام العرب على وجوه ، أذكرها لترد هذا إلى أولاها به ، فأحدها : فطرة الخلق ، فطره : أنشأه ، والله فاطر السموات والأرض ، أي خالقهما ، و " الفطرة " الجبلة التي خلق الله الناس عليها ، وجبلهم على فعلها ، وفي الحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=28838كل مولود يولد على الفطرة } قال قوم من أهل اللغة : فطرة الله التي فطر الناس عليها : أي خلقه لهم ، وقيل : معنى قوله " على الفطرة " أي على الإقرار بالله الذي كان أقر به لما أخرجه من ظهر آدم ، " والفطرة " زكاة الفطر . وأولى الوجوه بما ذكرنا : أن تكون الفطرة ما جبل الله الخلق عليه ، وجبل طباعهم على فعله ، وهي كراهة ما في جسده مما هو ليس من زينته ، [ ص: 126 ] وقد قال غير القزاز : الفطرة هي السنة ، واعلم أن قوله في هذه الرواية " الفطرة خمس " وقد ورد في رواية أخرى { nindex.php?page=hadith&LINKID=18577خمس من الفطرة } وبين اللفظتين تفاوت ظاهر ، فإن الأول ظاهره الحصر ، كما يقال : العالم في البلد زيد ، إلا أن الحصر في مثل هذا : تارة يكون حقيقيا ، وتارة يكون مجازيا ، والحقيقي مثاله ما ذكرناه ، من قولنا : العالم في البلد زيد ، إذا لم يكن فيها غيره ، ومن المجاز { nindex.php?page=hadith&LINKID=14202الدين النصيحة } كأنه بولغ في النصيحة إلى أن جعل الدين إياها ، وإن كان في الدين خصال أخرى غيرها ، وإذا ثبت في الرواية الأخرى عدم الحصر - أعني قوله عليه السلام " خمس من الفطرة " - وجب إزالة هذه الرواية عن ظاهرها المقتضي للحصر ، وقد ورد في بعض الروايات الصحيحة أيضا { nindex.php?page=hadith&LINKID=21604عشر من الفطرة } وذلك أصرح في عدم الحصر ، وأنص على ذلك ، و " الختان " ما ينتهي إليه القطع من الصبي والجارية ، يقال : ختن الصبي يختنه ويختنه - بكسر التاء وضمها - ختنا بإسكان التاء ، و " الاستحداد " استفعال من الحديد ، وهو إزالة شعر العانة بالحديد ، فأما إزالته بغير ذلك ، كالنتف وبالنورة : فهو محصل للمقصود ، لكن السنة والأولى : الذي دل عليه لفظ الحديث ، فإن " الاستحداد " استفعال من الحديد .
" وقص الشارب " مطلق ، ينطلق على إحفائه ، وعلى ما دون ذلك ، واستحب بعض العلماء إزالة ما زاد على الشفة ، وفسروا به قوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=1258وأحفوا الشوارب } وقوم يرون إنهاكها ، وزوال شعرها ، ويفسرون به الإحفاء ، فإن اللفظ يدل على الاستقصاء ، ومنه : إحفاء المسألة ، وقد ورد في بعض الروايات { nindex.php?page=hadith&LINKID=8566انهكوا الشوارب } والأصل في قص الشوارب وإحفائها وجهان : أحدهما : مخالفة زي الأعاجم ، وقد وردت هذه العلة منصوصة في الصحيح ، حيث قال " خالفوا المجوس " . والثاني : أن زوالها عن مدخل الطعام والشراب أبلغ في النظافة ، وأنزه من وضر الطعام .
وتقليم الأظفار قطع ما طال عن اللحم منها ، يقال : قلم أظفاره تقليما ، والمعروف فيه : التشديد ، كما قلنا ، والقلامة ما يقطع من الظفر ، وفي ذلك معنيان : أحدهما : تحسين الهيئة والزينة ، وإزالة القباحة من طول الأظفار . [ ص: 127 ] والثاني : أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه ، لما عساه يحصل تحتها من الوسخ المانع من وصول الماء إلى البشرة ، وهذا على قسمين :
أحدهما : أن لا يخرج طولها عن العادة خروجا بينا ، وهذا الذي أشرنا إلى أنه أقرب إلى تحصيل الطهارة الشرعية على أكمل الوجوه ، فإنه إذا لم يخرج طولها عن العادة يعفى عما يتعلق بها من يسير الوسخ ، وأما إذا زاد على المعتاد : فما يتعلق بها من الأوساخ مانع من حصول الطهارة ، وقد ورد في بعض الأحاديث : الإشارة إلى هذا المعنى .
و " نتف الآباط " إزالة ما نبت عليها من الشعر بهذا الوجه ، أعني النتف ، وقد يقوم مقامه ما يؤدي إلى المقصود ، إلا أن استعمال ما دلت عليه السنة أولى ، وقد فرق لفظ الحديث بين إزالة شعر العانة وإزالة شعر الإبط ، فذكر في الأول " الاستحداد " وفي الثاني " النتف " وذلك مما يدل على رعاية هاتين الهيئتين في محلهما ، ولعل السبب فيه : أن الشعر بحلقه يقوى أصله ، ويغلظ جرمه ، ولهذا يصف الأطباء تكرار حلق الشعر في المواضع التي يراد قوته فيها ، والإبط إذا قوي فيه الشعر وغلظ جرمه كان أفوح للرائحة الكريهة المؤذية لمن يقاربها ، فناسب أن يسن فيه النتف المضعف لأصله ، المقلل للرائحة الكريهة ، وأما العانة : فلا يظهر فيها من الرائحة الكريهة ما يظهر في الإبط ، فزال المعنى المقتضي للنتف ، رجع إلى الاستحداد ; لأنه أيسر وأخف على الإنسان من غير معارض ، وقد اختلف العلماء في حكم الختان ، فمنهم من أوجبه ، وهو nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ومنهم جعله سنة ، وهو مالك وأكثر أصحابه [ هذا في الرجال ، وأما في النساء : فهو مكرمة على ما قالوا ] ، ومن فسر " الفطرة " بالسنة فقد تعلق بهذا اللفظ في كونه غير واجب لوجهين :
أحدهما : أن السنة تذكر في مقابلة الواجب .
والثاني : أن قرائنه مستحبات ، [ ص: 128 ] والاعتراض على الأول : أن كون " السنة " في مقابلة " الواجب " وضع اصطلاحي لأهل الفقه ، والوضع اللغوي غيره ، وهو الطريقة ، ولم يثبت استمرار استعماله في هذا المعنى في كلام صاحب الشرع صلوات الله عليه ، وإذا لم يثبت استمراره في كلامه صلى الله عليه وسلم لم يتعين حمل لفظه عليه ، والطريقة التي يستعملها الخلافيون من أهل عصرنا وما قاربه ، أن يقال : إذا ثبت استعماله في هذا المعنى ، فيدعى أنه كان مستعملا قبل ذلك ; لأنه لو كان الوضع غيره فيما سبق ، لزم أن يكون قد تغير إلى هذا الوضع ، والأصل عدم تغيره ، وهذا كلام طريف ، وتصرف غريب ، قد يتبادر إلى إنكاره ، ويقال : الأصل استمرار الواقع في الزمن الماضي إلى هذا الزمان ، أما أن يقال : الأصل انعطاف الواقع في هذا الزمان على الزمن الماضي : فلا ، لكن جوابه ما تقدم ، وهو أن يقال : هذا الوضع ثابت ، فإن كان هو الذي وقع في الزمان الماضي ، فهو المطلوب ، وإن لم يكن ، فالواقع في الزمان الماضي غيره حينئذ ، وقد تغير ، والأصل عدم التغير لما وقع في الزمن الماضي ، فعاد الأمر إلى أن الأصل استصحاب الحال في الزمن الماضي ، وهذا - وإن كان طريفا ، كما ذكرناه - إلا أنه طريق جدل لا جلد ، والجدلي في طرائق التحقيق : سالك على محجة مضيق ، وإنما تضعف هذه الطريقة إذا ظهر لنا تغير الوضع ظنا ، وأما إذا استوى الأمران ، فلا بأس به ، وأما الاستدلال بالاقتران : فهو ضعيف ، إلا أنه في هذا المكان قوي ; لأن لفظة " الفطرة " لفظة واحدة استعملت في هذه الأشياء الخمسة ، فلو افترقت في الحكم - أعني أن تستعمل في بعض هذه الأشياء لإفادة الوجوب ، وفي بعضها لإفادة الندب - لزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين وفي ذلك ما عرف في علم الأصول ، وإنما تضعف دلالة الاقتران ضعفا إذا استقلت الجمل في [ ص: 129 ] الكلام ، ولم يلزم منه استعمال اللفظ الواحد في معنيين ، كما جاء في الحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=31233لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ، ولا يغتسل فيه من الجنابة } حيث استدل به بعض الفقهاء على أن اغتسال الجنب في الماء يفسده ، لكونه مقرونا بالنهي عن البول فيه ، والله أعلم .