[ ص: 151 ] 38 - الحديث الثالث : عن nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أعطيت خمسا ، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي المغانم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة } .
" جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بفتح الحاء المهملة ، وبعدها راء مهملة - الأنصاري السلمي - بفتح السين واللام - منسوب إلى بني سلمة - بكسر اللام - يكنى أبا عبد الله . توفي سنة إحدى وستين من الهجرة ، وهو ابن إحدى وتسعين ، والكلام على حديثه من وجوه :
الأول : قوله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا " تعديد للفضائل التي خص بها ، دون سائر الأنبياء عليهم السلام ، وظاهره : يقتضي أن كل واحدة من هذه الخمس لم تكن لأحد قبله ، ولا يعترض على هذا بأن نوحا عليه السلام - بعد خروجه من الفلك - كان مبعوثا إلى أهل الأرض ; لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه ، وقد كان مرسلا إليهم ; لأن هذا العموم في الرسالة لم يكن في أصل البعثة ، وإنما وقع لأجل الحادث الذي حدث ، وهو انحصار الناس في الموجودين لهلاك سائر الناس ، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم : فعموم رسالته في أصل بعثته ، وأيضا فعموم الرسالة : يوجب قبولها عموما في الأصل والفروع ، وأما التوحيد ، وتمحيص العبادة لله عز وجل : فيجوز أن يكون عاما في حق بعض الأنبياء ، وإن كان التزام فروع شرعه ليس عاما فإن من الأنبياء المتقدمين عليهم السلام من قاتل غير قومه على الشرك وعبادة غير الله تعالى ، فلو لم يكن التوحيد لازما لهم بشرعه ، أو شرع غيره : لم يقاتلوا ، ولم يقتلوا ، إلا على طريقة المعتزلة [ ص: 152 ] القائلين بالحسن والقبح العقليين ويجوز أن تكون الدعوة على التوحيد عامة ، لكن على ألسنة أنبياء متعددة ، فثبت التكليف به لسائر الخلق ، وإن لم تعم الدعوة به بالنسبة إلى نبي واحد .
الثاني : قوله صلى الله عليه وآله وسلم نصرت بالرعب الرعب : هو الوجل والخوف لتوقع نزول محظور ، والخصوصية التي يقتضيها لفظ الحديث : مقيدة بهذا القدر من الزمان ، ويفهم منه أمران :
أحدهما : أنه لا ينفي وجود الرعب من غيره في أقل من هذه المسافة .
والثاني : أنه لم يوجد لغيره في أكثر منها ، فإنه مذكور في سياق الفضائل والخصائص ، ويناسبه : أن تذكر الغاية فيه ، وأيضا ، فإنه لو وجد لغيره في أكثر من هذه المسافة لحصل الاشتراك في الرعب في هذه المسافة ، وذلك ينفي الخصوصية بها .
الثالث : قوله صلى الله عليه وسلم " جعلت لي الأرض مسجدا " المسجد : موضع السجود في الأصل ، ثم يطلق في العرف على المكان المبني للصلاة التي السجود منها ، وعلى هذا : فيمكن أن يحمل " المسجد " ههنا على الوضع اللغوي ، أي جعلت لي الأرض كلها مسجدا ، أعني موضع السجود ، أي لا يختص السجود منها بموضع دون غيره ، ويمكن أن تجعل مجازا عن المكان المبني للصلاة ; لأنه لما جازت الصلاة جميعها كانت كالمسجد في ذلك فإطلاق اسمه عليها من مجاز التشبيه والذي يقرب هذا التأويل : أن الظاهر أنه إنما أريد : أنها مواضع للصلاة بجملتها ، ولا للسجود فقط منها ; لأنه لم ينقل : أن الأمم الماضية كانت تخص السجود وحده بموضع دون موضع .
الرابع : قوله صلى الله عليه وسلم " طهورا " استدل به على أمور :
أحدها : أن الطهور هو المطهر لغيره ، ووجه الدليل : أنه ذكر خصوصيته بكونها طهورا ، أي مطهرا ، ولو كان " الطهور " هو الطاهر : لم تثبت الخصوصية ، [ ص: 153 ] فإن طهارة الأرض عامة في حق كل الأمم .
الأمر الثاني : استدل به من جوز التيمم بجميع أجزاء الأرض ، لعموم قوله " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " والذين خصوا التيمم بالتراب : استدلوا بما جاء في الحديث الآخر " وجعلت تربتها لنا طهورا " وهذا خاص ينبغي أن يحمل عليه العام وتختص الطهورية بالتراب ، واعترض على هذا بوجوه : منها : منع كون التربة مرادفة للتراب ، وادعي أن تربة كل مكان : ما فيه من تراب أو غيره مما يقاربه .
ومنها : أنه مفهوم لقب ، أعني تعليق الحكم بالتربة ، ومفهوم اللقب : ضعيف عند أرباب الأصول ، وقالوا : لم يقل به إلا الدقاق ، ويمكن أن يجاب عن هذا : بأن في الحديث قرينة زائدة عن مجرد تعليق الحكم بالتربة ، وهو الافتراق في اللفظ بين جعلها مسجدا ، وجعل تربتها طهورا على ما في ذلك الحديث ، وهذا الافتراق في هذا السياق قد يدل على الافتراق في الحكم ، وإلا لعطف أحدهما على الآخر نسقا ، كما في الحديث الذي ذكره المصنف .
ومنها : أن الحديث المذكور الذي خصت فيه " التربة " بالطهورية لو سلم أن مفهومه معمول به ، لكان الحديث الآخر بمنطوقه يدل على طهورية بقية أجزاء الأرض ، أعني قوله صلى الله عليه وسلم " مسجدا وطهورا " فإذا تعارض في غير التراب دلالة المفهوم الذي يقتضي عدم طهوريته ، ودلالة المنطوق الذي يقتضي طهوريته ، فالمنطوق مقدم على المفهوم ، وقد قالوا : إن المفهوم يخصص العموم ، فتمتنع هذه الأولوية ، إذا سلم المفهوم ههنا ، وقد أشار بعضهم إلى خلاف هذه القاعدة ، أعني تخصيص العموم [ ص: 154 ] بالمفهوم ، ثم عليك - بعد هذا كله - بالنظر في معنى ما أسلفناه من حاجة التخصيص إلى التعارض بينه وبين العموم في محله .
الأمر الثالث : أخذ منه بعض المالكية : أن لفظة طهور تستعمل لا بالنسبة إلى الحدث ، ولا الخبث . وقال : إن " الصعيد " قد يسمى طهورا ، وليس عن حدث ، ولا عن خبث ; لأن التيمم لا يرفع الحدث ، هذا أو معناه ، وجعل ذلك جوابا عن استدلال الشافعية على نجاسة فم الكلب ، لقوله صلى الله عليه وسلم { nindex.php?page=hadith&LINKID=21340طهور إناء أحدكم ، إذا ولغ فيه الكلب : أن يغسله سبعا } فقالوا " طهور " يستعمل إما عن حدث أو خبث ، ولا حدث على الإناء ، فيتعين أن يكون عن خبث ، فمنع هذا المجيب المالكي الحصر . وقال : إن لفظة " طهور " تستعمل في إباحة الاستعمال ، كما في التراب ، إذ لا يرفع الحدث كما قلنا ، فيكون قوله " طهور إناء أحدكم " مستعملا في إباحة استعماله ، أعني الإناء ، كما في التيمم ، وفي هذا عندي نظر ، فإن التيمم - وإن قلنا : إنه لا يرفع الحدث - لكنه عن حدث ، أي الموجب لفعله حدث . وفرق بين قولنا " إنه عن حدث " وبين قولنا " إنه لا يرفع الحدث " وربما تقدم هذا أو بعضه .
الخامس : قوله صلى الله عليه وسلم " فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل " مما يستدل به على عموم التيمم بأجزاء الأرض ; لأن قوله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل " صيغة عموم ، فيدخل تحته من لم يجد ترابا ، ووجد غيره من أجزاء الأرض . ومن خص التيمم بالتراب يحتاج أن يقيم دليلا يخص به هذا العموم ، أو يقول : دل الحديث على أنه يصلي ، وأنا أقول بذلك . فمن لم يجد ماء ولا ترابا : صلى على حسب حاله . فأقول بموجب الحديث ، إلا أنه قد جاء في رواية أخرى " فعنده طهوره ومسجده " والحديث إذا اجتمعت طرقه فسر بعضها بعضا .
[ ص: 155 ] السادس : قوله صلى الله عليه وسلم " وأحلت لي الغنائم " يحتمل أن يراد به : جواز أن يتصرف فيها كيف يشاء ، ويقسمها كما أراد ، كما في قوله عز وجل : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } ويحتمل أن يراد به : لم يحل منها شيء لغيره وأمته . وفي بعض الأحاديث ما يشعر ظاهره بذلك ، ويحتمل أن يراد بالغنائم بعضها ، وفي بعض الأحاديث " وأحل لنا الخمس " أو كما قال . أخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان بكسر الحاء وبعدها باء موحدة في صحيحه .
إذا ثبت هذا فنقول : الأقرب أنها في قوله صلى الله عليه وسلم " وأعطيت الشفاعة " للعهد ، وهو ما بينه صلى الله عليه وسلم من شفاعته العظمى ، وهي شفاعته في إراحة الناس من طول القيام بتعجيل حسابهم ، وهي شفاعة مختصة به صلى الله عليه وسلم ولا خلاف فيها ، ولا ينكرها المعتزلة . والشفاعات الأخروية خمس : إحداها : هذه ، وقد ذكرنا اختصاص الرسول بها ، وعدم الخلاف فيها ، وثانيتها : الشفاعة في إدخال قوم الجنة من دون حساب ، وهذه قد وردت أيضا لنبينا صلى الله عليه وسلم ولا أعلم الاختصاص فيها ، ولا عدم الاختصاص . وثالثتها : قوم قد استوجبوا النار ، فيشفع في عدم دخولهم لها . وهذه أيضا قد تكون غير مختصة . ورابعتها : قوم دخلوا النار ، فيشفع في خروجهم منها ، وهذه قد ثبت فيها عدم الاختصاص ، لما صح في الحديث من شفاعة الأنبياء والملائكة وقد ورد أيضا " الإخوان من المؤمنين يشفعون " . وخامستها : الشفاعة بعد دخول الجنة في زيادة الدرجات لأهلها . وهذه أيضا لا تنكرها المعتزلة .
فتلخص من هذا : أن من الشفاعة منها ما علم الاختصاص به ، ومنها : ما علم عدم الاختصاص به . ومنها : ما يحتمل الأمرين ، فلا تكون الألف واللام للعموم ، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تقدم منه إعلام الصحابة بالشفاعة الكبرى المختص بها هو ، التي صدرنا بها الأقسام الخمسة ، فلتكن الألف واللام للعهد . وإن كان لم [ ص: 156 ] يتقدم ذلك على هذا الحديث ، فلتجعل الألف واللام لتعريف الحقيقة وتنزل على تلك الشفاعة ; لأنه كالمطلق حينئذ ، فيكفي تنزيله على فرد .
وليس لك أن تقول : لا حاجة إلى هذا التكلف ، إذ ليس في الحديث إلا قوله " وأعطيت الشفاعة " وكل هذه الأقسام التي ذكرتها : قد أعطيها صلى الله عليه وسلم فليحمل اللفظ على العموم ; لأنا نقول : هذه الخصلة مذكورة في الخمس التي اختص بها صلى الله عليه وسلم فلفظها - وإن كان مطلقا - إلا أن ما سبق في صدر الكلام : يدل على الخصوصية ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " لم يعطهن أحد قبلي " ، وأما قوله " وكان النبي يبعث إلى قومه " فقد تقدم الكلام عليه في صدر الحديث . والله أعلم .