وهذا الحديث مما يستدل به أصحاب أبي حنيفة على تنجيس الماء الراكد ، وإن كان أكثر من قلتين ; فإن الصيغة صيغة عموم .
وأصحاب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يخصون هذا العموم ، ويحملون النهي على ما دون القلتين . ويقولون بعدم تنجيس القلتين - فما زاد - إلا بالتغير : مأخوذ من حديث القلتين . فيحمل هذا الحديث العام في النهي على ما دون القلتين ، جمعا بين الحديثين . فإن حديث القلتين يقتضي عدم تنجيس القلتين فما فوقهما .
وذلك أخص من مقتضى الحديث العام الذي ذكرناه .
والخاص مقدم على العام .
ولأحمد طريقة أخرى : وهي الفرق بين بول الآدمي ، وما في معناه ، من عذرته المائعة ، وغير ذلك من النجاسات .
فأما بول الآدمي ، وما في معناه : فينجس الماء ، وإن كان أكثر من قلتين .
وأما غيره من النجاسات : فتعتبر فيه القلتان ، وكأنه رأى الخبث المذكور في حديث القلتين عاما بالنسبة إلى الأنجاس .
فمالك - رحمه الله - [ ص: 74 ] إذا حمل النهي على الكراهة - لاعتقاده أن الماء لا ينجس إلا بالتغير - لا بد أن يخرج عنه صورة التغير بالنجاسة ، أعني عن الحكم بالكراهية ، فإن الحكم ثم : التحريم ، فإذا لا بد من الخروج عن الظاهر عند الكل .
فلأصحاب أبي حنيفة أن يقولوا : خرج عنه المستبحر الكثير جدا بالإجماع ، فيبقى ما عداه على حكم النص ، فيدخل تحته ما زاد على القلتين .
ويقول أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : خرج الكثير المستبحر بالإجماع الذي ذكرتموه .
وخرج القلتان فما زاد ، بمقتضى حديث القلتين ، فيبقى ما نقص عن القلتين داخلا تحت مقتضى الحديث .
ويقول من نصر قول أحمد المذكور : خرج ما ذكرتموه ، وبقي ما دون القلتين داخلا تحت النص ، إلا أن ما زاد على القلتين ، مقتضى حديث القلتين فيه عام في الأنجاس ، فيخص ببول الآدمي .
ولمخالفهم أن يقول : قد علمنا جزما أن هذا النهي إنما هو لمعنى في النجاسة ، وعدم التقرب إلى الله بما خالطها .
وهذا المعنى يستوي فيه سائر الأنجاس ، ولا يتجه تخصيص بول الآدمي منها ، بالنسبة إلى هذا المعنى ، فإن المناسب لهذا المعنى - أعني التنزه عن الأقذار - أن يكون ما هو أشد استقذارا أوقع في هذا المعنى وأنسب له ، وليس بول الآدمي بأقذر من سائر النجاسات ، بل قد يساويه غيره ، أو يرجح عليه فلا يبقى لتخصيصه دون غيره بالنسبة إلى المنع معنى .
فيحمل الحديث على أن ذكر البول ورد تنبيها على غيره ، مما يشاركه في معناه من الاستقذار . والوقوف على مجرد الظاهر ههنا - مع وضوح المعنى ، وشموله لسائر الأنجاس - ظاهرية محضة .
وأما مالك رحمه الله تعالى : فإذا حمل النهي على الكراهية يستمر حكم الحديث في القليل والكثير ، غير المستثنى بالاتفاق [ وهو المستبحر ] مع حصول الإجماع على تحريم الاغتسال بعد تغير الماء بالبول .
فهذا يلتفت إلى حمل اللفظ الواحد إلى معنيين مختلفين ، وهي مسألة أصولية .
فإن جعلنا النهي للتحريم : كان استعماله في الكراهة والتحريم استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه .
والأكثرون على منعه .
والله أعلم . [ ص: 75 ] وقد يقال على هذا : إن حالة التغير مأخوذة من غير هذا اللفظ . فلا يلزم استعمال اللفظ الواحد في معنيين مختلفين . وهذا متجه ، إلا أنه يلزم منه التخصيص في هذا الحديث . والمخصص : الإجماع على نجاسة المتغير ] .
الوجه الثاني : اعلم أن النهي عن الاغتسال لا يخص الغسل ، بل التوضؤ في معناه .
الثالث : ورد في بعض الروايات " ثم يغتسل منه " وفي بعضها " ثم يغتسل فيه " ومعناهما مختلف ، يفيد كل واحد منهما حكما بطريق النص وآخر بطريق الاستنباط ، ولو لم يرد فيه لفظة " فيه " لاستويا ، لما ذكرنا .
الرابع : مما يعلم بطلانه قطعا : ما ذهبت إليه الظاهرية الجامدة : من أن الحكم مخصوص بالبول في الماء حتى لو بال في كوز وصبه في الماء : لم يضر عندهم . أو لو بال خارج الماء فجرى البول إلى الماء : لم يضر عندهم أيضا . والعلم القطعي حاصل ببطلان قولهم .
لاستواء الأمرين في الحصول في الماء وأن المقصود : اجتناب ما وقعت فيه النجاسة من الماء .
وهي [ ص: 76 ] خروجه عن كونه أهلا للتطهير به : إما لنجاسته ، أو لعدم طهوريته ومع هذا فلا بد فيه من التخصيص .
فإن الماء الكثير - إما القلتان فما زاد على مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، أو المستبحر على مذهب أبي حنيفة - لا يؤثر فيه الاستعمال .
ومالك لما رأى أن الماء المستعمل طهور ، غير أنه مكروه : يحمل هذا النهي على الكراهة .
وقد يرجحه : أن وجوه الانتفاع بالماء لا تختص بالتطهير .
والحديث عام في النهي .
فإذا حمل على التحريم لمفسدة خروج الماء عن الطهورية : لم يناسب ذلك ; لأن بعض مصالح الماء تبقى بعد كونه خارجا عن الطهورية ، وإذا حمل على الكراهة : كانت المفسدة عامة ; لأنه يستقذر بعد الاغتسال فيه .
وذلك ضرر بالنسبة إلى من يريد استعماله في طهارة أو شرب ، فيستمر النهي بالنسبة إلى المفاسد المتوقعة ، إلا أن فيه حمل اللفظ على المجاز ، أعني حمل النهي على الكراهة .