. فيه مباحث ، الأول : المشهور في الرواية " خمس " بالتنوين " فواسق " ويجوز خمس فواسق بالإضافة من غير تنوين . وهذه الرواية التي ذكرها المصنف تدل على صحة المشهور . فإنه أخبر عن " خمس " بقوله " كلهن فواسق " وذلك يقتضي أن ينون " خمس " فيكون " فواسق " خبرا . وبين التنوين والإضافة في هذا فرق دقيق في المعنى . وذلك : أن الإضافة تقتضي الحكم على خمس من [ ص: 449 ] الفواسق بالقتل . وربما أشعر التخصيص بخلاف الحكم في غيرها وبطريق المفهوم . وأما مع التنوين : فإنه يقتضي وصف الخمس بالفسق من جهة المعنى وقد يشعر بأن الحكم المرتب على ذلك - وهو القتل - معلل بما جعل وصفا ، وهو الفسق . فيقتضي ذلك التعميم لكل فاسق من الدواب ، وهو ضد ما اقتضاه الأول من المفهوم . وهو التخصيص .
الثاني : الجمهور على جواز قتل هذه المذكورة في الحديث . والحديث دليل على ذلك وعن بعض المتقدمين : أن الغراب يرمى ولا يقتل .
الثالث : اختلفوا في الاقتصار على هذه الخمسة ، أو التعدية لما هو أكثر منها بالمعنى . فقيل : بالاقتصار عليها . وهو المذكور في كتب الحنفية . ونقل غير واحد من المصنفين المخالفين لأبي حنيفة : أن nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة ألحق الذئب بها . وعدوا ذلك من مناقضاته ، والذي قالوا بالتعدية اختلفوا في المعنى الذي به التعدية . فنقل عن بعض الشارحين : أن nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي قال : المعنى في جواز قتلهن : كونهن مما لا يؤكل ، فكل ما لا يؤكل قتله جائز للمحرم ، ولا فدية عليه ، وقال مالك : المعنى فيه كونهن مؤذيات ، فكل مؤذ يجوز للمحرم قتله ، وما لا فلا .
وهذا عندي فيه نظر ، فإن جواز القتل غير جواز الاصطياد ، وإنما يرى nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي جواز الاصطياد وعدم وجوب الجزاء بالقتل لغير المأكول ، وأما جواز الإقدام على قتل ما لا يؤكل مما ليس فيه ضرر : فغير هذا ، ومقتضى مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه : أنه لا يجوز اصطياد الأسد والنمر ، وما في معناهما من بقية السباع العادية ، والشافعية يردون هذا بظهور المعنى في المنصوص عليه من الخمس ، وهو الأذى الطبيعي ، والعدوان المركب في هذه الحيوانات ، والمعنى إذا ظهر في المنصوص عليه عدى القائسون إلى كل ما وجد فيه المعنى ذلك الحكم ، كما في الأشياء الستة التي في باب الربا ، وقد وافقه أبو حنيفة على التعدية فيها ، وإن اختلف هو nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في المعنى الذي يعدى به .
وأقول : المذكور ثم : هو تعليق الحكم بالألقاب ، وهو لا يقتضي مفهوما عند الجمهور ، فالتعدية لا تنافي مقتضى اللفظ ، والمذكور ههنا مفهوم عدد ، وقد قال به جماعة ، فيكون اللفظ للتخصيص ، وإلا بطلت فائدة التخصيص بالعدد ، وعلى هذا المعنى عول بعض مصنفي الحنفية في التخصيص بالخمس [ ص: 450 ] المذكورات - أعني مفهوم العدد - وذكر غير ذلك مع هذا أيضا .
واعلم أن التعدية بمعنى الأذى إلى كل مؤذ : قوي ، بالإضافة إلى تصرف القائسين ، فإنه ظاهر من جهة الإيماء بالتعليل بالفسق ، وهو الخروج عن الحد ، وأما التعليل بحرمة الأكل : ففيه إبطال ما دل عليه إيماء النص من التعليل بالفسق ; لأن مقتضى العلة : أن يتقيد الحكم بها وجودا وعدما ، فإن لم يتقيد ، وثبت الحكم حيث تعدم : بطل تأثيرها بخصوصها في الحكم ، حيث ثبت الحكم مع انتفائها ، وذلك بخلاف ما دل عليه النص من التعليل بها .
البحث الرابع : القائلون بالتخصيص بالخمسة المذكورة وما جاء معها في حديث آخر - من ذكر الحية - وفوا بمقتضى مفهوم العدد ، والقائلون بالتعدية إلى غيرها يحتاجون إلى ذكر السبب في تخصيص المذكورات بالذكر ، وقال من علل بالأذى : إنما خصت بالذكر لينبه بها على ما في معناها ، وأنواع الأذى مختلف فيها ، فيكون ذكر كل نوع منها منبها على جواز قتل ما فيه ذلك النوع ، فنبه بالحية والعقرب على ما يشاركهما في الأذى باللسع ، كالبرغوث مثلا عند بعضهم ، ونبه بالفأرة على ما أذاه بالنقب والتقريض ، كابن عرس ، ونبه بالغراب والحدأة على ما أذاه بالاختطاف كالصقر والباز ، ونبه بالكلب العقور على كل عاد بالعقر والافتراس بطبعه ، كالأسد والفهد والنمر .
وأما من قال بالتعدية إلى كل ما لا يؤكل : فقد أحالوا التخصيص في الذكر بهذه الخمسة على الغالب ، فإنها الملابسات للناس والمخالطات في الدور ، بحيث يعم أذاها ، فكان ذلك سببا للتخصيص ، والتخصيص لأجل الغلبة إذا وقع لم يكن له مفهوم ، على ما عرف في الأصول ، إلا أن خصومهم جعلوا هذا المعنى معترضا عليهم في تعدية الحكم إلى بقية السباع المؤذية .
وتقريره : أن إلحاق المسكوت بالمنطوق قياسا شرطه مساواة الفرع للأصل أو رجحانه . أما إذا انفرد الأصل بزيادة يمكن أن تعتبر ، فلا إلحاق . ولما كانت هذه الأشياء عامة الأذى - كما ذكرتم - ناسب أن يكون ذلك سببا لإباحة قتلها ، لعموم ضررها ، وهذا المعنى معدوم فيما لا يعم ضرره مما لا يخالط في المنازل ، فلا تدعو الحاجة إلى إباحة قتله ، كما دعت إلى إباحة قتل ما يخالط من المؤذيات ، فلا يلحق به . [ ص: 451 ] وأجاب الأولون عن هذا بوجهين :
أحدهما : أن الكلب العقور نادر ، وقد أبيح قتله .
والثاني : معارضة الندرة في غير هذه الأشياء بزيادة قوة الضرر . ألا ترى أن تأثير الفأرة بالنقب - مثلا - والحدأة بخطف شيء يسير لا يساوي ما في الأسد والفهد من إتلاف الأنفس ؟ فكان إباحة القتل أولى .
البحث الخامس : اختلفوا في الكلب العقور . فقيل : هو الإنسي المتخذ . وقيل : هو كل ما يعدو ، كالأسد والنمر . واستدل هؤلاء بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب " بأن يسلط الله عليه كلبا من كلابه . افترسه السبع " فدل على تسميته بالكلب . ويرجح الأولون قولهم : بأن إطلاق اسم الكلب على غير الإنسي المتخذ : خلاف العرف . واللفظة إذا نقلها أهل العرف إلى معنى ، كان حملها عليه أولى من حملها على المعنى اللغوي .
البحث السادس : اختلفوا في صغار هذه الأشياء . وهي عند المالكية منقسمة . فأما صغار الغراب والحدأة : ففي قتلهما قولان لهم . والمشهور : القتل . ودليلهم عموم الحديث في قوله " الغراب والحدأة " وأما من منع القتل للصغار : فاعتبر الصفة التي علل بها القتل ، وهي " الفسق " على ما شهد به إيماء اللفظ . وهذا الفسق معدوم في الصغار حقيقة . والحكم يزول بزوال علته . وأما صغار الكلاب ففيها قولان لهم أيضا . وأما صغار غير ذلك من المستثنيات المذكورة في الحديث : فتقتل . وظاهر اللفظ والإطلاق : يقتضي أن تدخل الصغار لانطلاق لفظ " الغراب والحدأة " وغيرهما عليها . وأما الكلب العقور : فإنه أبيح قتله بصفة تتقيد الإباحة بها . ليست موجودة في الصغير ، ولا هي معلومة الوجود في حالة الكبر على تقدير البقاء ، بخلاف غيره . فإنه عند الكبر ينتهي بطبعه إلى الأذى قطعا .
البحث السابع : استدل به على أنه يقتل في الحرم من لجأ إلى الحرم بعد قتله لغيره مثلا ، على ما هو مذهب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وعلل ذلك بأن إباحة قتل هذه الأشياء في الحرم : معلل بالفسق والعدوان فيعم الحكم بعموم العلة . والقاتل عدوانا فاسق بعدوانه . فتوجد العلة في قتله ، فيقتل بالأولى ; لأنه مكلف . وهذه الفواسق فسقها طبعي . ولا تكليف عليها . والمكلف إذا ارتكب الفسق هاتك لحرمة نفسه . فهو أولى بإقامة مقتضى الفسق عليه . وهذا عندي ليس بالهين . وفيه غور ، فليتنبه له . والله أعلم .