الحديث : يتعلق بمسألة إثبات خيار المجلس في البيع . وهو يدل عليه . وبه قال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وفقهاء أصحاب الحديث . ونفاه مالك وأبو حنيفة . ووافق [ ص: 489 ] ابن حبيب - من أصحاب مالك من أثبته ، والذين نفوه اختلفوا في وجه العذر عنه . والذي يحضرنا الآن من ذلك وجوه :
أحدها : أنه حديث خالفه راويه . وكل ما كان كذلك : لم يعمل به .
أما الأول : فلأن مالكا رواه ، ولم يقل به . وأما الثاني : فلأن الراوي إذا خالف ، فإما أن يكون مع علمه بالصحة ، فيكون فاسقا ، فلا تقبل روايته . وإما أن يكون لا مع علمه بالصحة . فهو أعلم بعلل ما روى . فيتبع في ذلك .
وأجيب عن ذلك بوجهين :
أحدهما : منع المقدمة .
الثانية : وهو أن الراوي إذا خالف لم يعمل بروايته . وقوله " إذا كان مع علمه بالصحة كان فاسقا " ممنوع لجواز أن يعلم بالصحة ، ويخالف لمعارض راجح عنده . ولا يلزم تقليده فيه . وقوله " إن كان لا مع علمه بالصحة ، وهو أعلم بروايته ، فيتبع في ذلك " ممنوع أيضا ; لأنه إذا ثبت الحديث بعدالة الله وجب العمل به ظاهرا . فلا يترك بمجرد الوهم والاحتمال .
الوجه الثاني : أن هذا الحديث مروي من طرق ، فإن تعذر الاستدلال به من جهة رواية مالك ، لم يتعذر من جهة أخرى . وإنما يكون ذلك عند التفرد على تقدير صحة هذا المأخذ - أعني أن مخالفة الراوي لروايته تقدح في العمل بها - فإنه على هذا التقدير : يتوقف العمل برواية مالك . ولا يلزم من بطلان مأخذ معين بطلان مأخذ الحكم في نفس الأمر .
الوجه الثاني من الاعتذارات : أن هذا خبر واحد فيما تعم به البلوى وخبر الواحد فيما تعم به البلوى غير مقبول . فهذا غير مقبول . أما الأول : فلأن البياعات مما تتكرر مرات لا تحصى . ومثل هذا تعم البلوى بمعرفة حكمه . وأما الثاني : فلأن العادة تقتضي أن ما عمت به البلوى يكون معلوما عند الكافة . فانفراد الواحد به : على خلاف العادة ، فيرد .
وأجيب عنه : بمنع المقدمتين معا . أما الأولى - وهو أن البيع بما تعم به [ ص: 490 ] البلوى - فالبيع كذلك . ولكن الحديث دل على إثبات خيار الفسخ . وليس الفسخ مما تعم به البلوى في البياعات . فإن الظاهر من الإقدام على البيع : الرغبة من كل واحد من المتعاقدين فيما صار إليه . فالحاجة إلى معرفة حكم الفسخ لا تكون عامة .
وأما الثانية : فلأن المعتمد في الرواية على عدالة الراوي وجزمه بالرواية . وقد وجد ذلك . وعدم نقل غيره لا يصلح معارضا ، لجواز عدم سماعه للحكم . فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبلغ الأحكام للآحاد والجماعة ، ولا يلزم تبليغ كل حكم لجميع المكلفين . وعلى تقدير السماع : فجائز أن يعرض مانع من النقل ، أعني نقل غير هذا الراوي . فإنما يكون ما ذكر إذا اقتضت العادة أن لا يخفي الشيء عن أهل التواتر ، وليست الأحكام الجزئية من هذا القبيل .
الوجه الثالث من الاعتذارات : هذا حديث مخالف للقياس الجلي والأصول القياسية المقطوع بها . وما كان كذلك لا يعمل به . أما الأول : فنعني بمخالف الأصول القياسية : ما ثبت الحكم في أصله قطعا . وثبت كون الفرع في معنى المنصوص ، لم يخالف إلا فيما يعلم عروه عن مصلحة تصلح أن تكون مقصودة بشرع الحكم . وههنا كذلك . فإن منع الغير من إبطال حق الغير : ثابت بعد التفرق قطعا . وما قبل التفرق في معناه ، لم يفترقا إلا فيما يقطع بتعريه عن المصلحة وأما الثاني : فلأن القاطع مقدم على المظنون لا محالة . وخبر الواحد مظنون . وأجيب عنه : بمنع المقدمتين معا .
أما الأولى : فلا نسلم عدم افتراق الفرع من الأصل إلا فيما لا يعتبر من المصالح . وذلك ; لأن البيع يقع بغتة من غير ترو . وقد يحصل الندم بعد الشروع فيه . فيناسب إثبات الخيار لكل واحد من المتعاقدين ، دفعا لضرر الندم ، فيما لعله يتكرر وقوعه . ولم يمكن إثباته مطلقا فيما بعد التفرق وقبله . فإنه رفع لحكمة العقد والوثوق بالتصرف ، فجعل مجلس العقد حريما لاعتبار هذه المصلحة . وهذا معنى معتبر . لا يستوي فيه ما قبل التفرق مع ما بعده .
وأما الثانية : فلا نسلم أن الحديث المخالف للأصول يرد . فإن الأصل يثبت بالنصوص . والنصوص ثابتة في الفروع المعينة . وغاية ما في الباب : أن يكون [ ص: 491 ] الشرع أخرج بعض الجزئيات عن الكليات لمصلحة تخصها ، أو تعبدا فيجب اتباعه .
الوجه الرابع : من الاعتذارات : هذا حديث معارض لإجماع أهل المدينة وعملهم . وما كان كذلك يقدم عليه العمل . فهذا يقدم عليه العمل . أما الأول : فلأن مالكا قال عقيب روايته " وليس لهذا عندنا حد معلوم . ولا أمر معمول به فيه " وأما الثاني : فلما اختص به أهل المدينة من سكناهم في مهبط الوحي ووفاة الرسول بين أظهرهم ، ومعرفتهم بالناسخ والمنسوخ فمخالفتهم لبعض الأخبار تقتضي علمهم بما أوجب ترك العمل به من ناسخ أو دليل راجح ، ولا تهمة تلحقهم فيتعين اتباعهم . وكان ذلك أرجح من خبر الواحد المخالف لعملهم .
وجوابه من وجهين :
أحدهما : منع المقدمة الأولى . وهو كون المسألة من إجماع أهل المدينة . وبيانه من ثلاثة أوجه : منها : أنا تأملنا لفظ مالك فلم نجده مصرحا بأن المسألة إجماع أهل المدينة . ويعرف ذلك بالنظر في ألفاظه . ومنها : أن هذا الإجماع إما أن يراد به إجماع سابق أو لاحق . والأول باطل ; لأن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رأس المفتين في المدينة في وقته . وقد كان يرى إثبات خيار المجلس والثاني : أيضا باطل . فإن nindex.php?page=showalam&ids=12493ابن أبي ذئب - من أقران مالك ومعاصريه - وقد أغلظ على مالك لما بلغه مخالفته للحديث .
وثانيهما : منع المقدمة الثانية . وهو أن إجماع أهل المدينة وعملهم مقدم على خبر الواحد مطلقا . فإن الحق الذي لا شك فيه : أن عملهم وإجماعهم لا يكون حجة فيما طريقه الاجتهاد والنظر ; لأن الدليل العاصم للأمة من الخطأ في الاجتهاد لا يتناول بعضهم . ولا مستند للعصمة سواه . وكيف يمكن أن يقال : بأن من كان بالمدينة من الصحابة رضوان الله عليهم يقبل خلافه ما دام مقيما بها فإذا خرج عنها لم يقبل خلافه ؟ فإن هذا محال . فإن قبول خلافه باعتبار صفات قائمة به حيث حل .
فتفرض المسألة فيما اختلف فيه أهل المدينة مع بعض من خرج منها من الصحابة ، بعد استقرار الوحي وموت الرسول صلى الله عليه وسلم . فكل ما قيل من ترجيح لأقوال علماء أهل المدينة وما اجتمع لهم من الأوصاف قد كان حاصلا لهذا الصحابي ، ولم يزل عنه بخروجه وقد خرج من المدينة أفضل أهل زمانه في ذلك [ ص: 492 ] الوقت بالإجماع من أهل السنة . وهو nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وقال أقوالا بالعراق . فكيف يمكن إهدارها إذا خالفها أهل المدينة ؟ وهو كان رأسهم . وكذلك nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه ومحله من العلم معلوم . وغيرهما قد خرجوا ، وقالوا أقوالا . على أن بعض الناس يقول : إن المسائل المختلف فيها خارج المدينة مختلف فيها بالمدينة وادعي العموم في ذلك .
الوجه الخامس : ورد في بعض الروايات للحديث { nindex.php?page=hadith&LINKID=42375ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله } فاستدل بهذه الزيادة على عدم ثبوت خيار المجلس من حيث إنه لولا أن العقد لازم لما احتاج إلى الاستقالة ، ولا طلب الفرار من الاستقالة . وأجيب عنه : بأن المراد بالاستقالة : فسخ البيع بحكم الخيار . وغاية ما في الباب : استعمال المجاز في لفظ الاستقالة " لكن جاز المصير إليه إذا دل الدليل عليه . وقد دل من وجهين :
أحدهما : أنه علق ذلك على التفرق . فإذا حملناه على خيار الفسخ ، صح تعليقه على التفرق ; لأن الخيار يرتفع بالتفرق . وإذا حملناه على الإقالة . فالاستقالة لا تتوقف على التفرق . ولا اختصاص لها بالمجلس .
الثاني : أنا إذا حملناه على خيار الفسخ ، فالتفرق مبطل له قهرا . فيناسب المنع من التفرق المبطل للخيار على صاحبه . أما إذا حملناه على الاستقالة الحقيقية : فمعلوم أنه لا يحرم على الرجل أن يفارق صاحبه خوف الاستقالة . ولا يبقى بعد ذلك إلا النظر فيما دل عليه الحديث من التحريم .
الوجه السادس : تأويل الحديث بحمل المتبايعين " على " المتساومين " لمصير حالهما إلى البيع ، وحمل " الخيار " على " خيار القبول " .
وأجيب عنه : بأن تسمية المتساومين متبايعين مجاز . واعترض على هذا الجواب : بأن تسميتهما " متبايعين " بعد الفراغ من البيع مجاز أيضا . فلم قلتم : إن الحمل على هذا المجاز أولى ؟ فقيل عليه : إنه إذا صدر البيع فقد وجدت الحقيقة . فهذا المجاز أقرب إلى الحقيقة من مجاز لم توجد حقيقته أصلا عند إطلاقه . وهو الحمل على المتساومين .
الوجه السابع : حمل " التفرق " على التفرق بالأقوال . وقد عهد ذلك [ ص: 493 ] شرعا . قال الله تعالى { وإن يتفرقا } أي عن النكاح .
وأجيب عنه : بأنه خلاف الظاهر . فإن السابق إلى الفهم : التفرق عن المكان . وأيضا فقد ورد في بعض الروايات { nindex.php?page=hadith&LINKID=34600ما لم يتفرقا عن مكانهما } وذلك صريح في المقصود . وربما اعترض على الأول بأن حقيقة التفرق : لا تختص بالمكان . بل هي عائدة إلى ما كان الاجتماع فيه وإذا كان الاجتماع في الأقوال : كان التفرق فيها . وإن كان في غيرها : كان التفرق عنه .
وأجيب عنه : بأن حمله على غير المكان بقرينة : يكون مجازا .
الوجه الثامن : قال بعضهم : تعذر العمل بظاهر الحديث . فإنه أثبت الخيار لكل واحد من المتبايعين على صاحبه . فالحال لا تخلو : إما أن يتفقا في الاختيار ، أو يختلفا . فإن اتفقا لم يثبت لواحد منهما على صاحبه خيار . وإن اختلفا - بأن اختار أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء ، فقد استحال أن يثبت على كل واحد منهما لصاحبه الخيار . إذ الجمع بين الفسخ والإمضاء مستحيل . فيلزم تأويل الحديث . ولا نحتاج إليه . ويكفينا صدكم عن الاستدلال بالظاهر . وأجيب عنه بأن قيل : لم يثبت صلى الله عليه وسلم مطلق الخيار ، بل أثبت الخيار ، وسكت عما فيه الخيار . فنحن نحمله على خيار الفسخ . فيثبت لكل واحد منهما خيار الفسخ على صاحبه . وإن أبى صاحبه ذلك .
الوجه التاسع ادعاء أنه حديث منسوخ : إما لأن علماء المدينة أجمعوا على عدم ثبوت خيار المجلس . وذلك يدل على النسخ . وإما لحديث اختلاف المتبايعين ، فإنه يقتضي الحاجة إلى اليمينين . وذلك يستلزم لزوم العقد . فإنه لو ثبت الخيار لكان كافيا في رفع العقد عند الاختلاف . وهو ضعيف جدا .
أما النسخ لأجل عمل أهل المدينة : فقد تكلمنا عليه . والنسخ لا يثبت بالاحتمال . ومجرد المخالفة لا يلزم منه أن يكون للنسخ ; لجواز أن يكون التقديم [ ص: 494 ] لدليل آخر راجح في ظنهم عند تعارض الأدلة عندهم .
وأما حديث " اختلاف المتبايعين " فالاستدلال به ضعيف جدا ; لأنه مطلق أو عام بالنسبة إلى زمن التفرق وزمن المجلس . فيحمل على ما بعد التفرق ولا حاجة إلى النسخ . والنسخ لا يصار إليه إلا عند الضرورة .
الوجه العاشر : حمل " الخيار " على خيار الشراء ، أو خيار إلحاق الزيادة بالثمن ، أو المثمن . وإذا تردد لم يتعين حمله على ما ذكرتموه .
الثاني : قيام المانع من إرادة كل واحد من الخيارين . أما خيار الشراء : فلأن المراد من اسم " المتبايعين " المتعاقدان . والمتعاقدان : من صدر منهما العقد وبعد صدور العقد منهما لا يكون لهما خيار الشراء فضلا عن أن يكون لهما ذلك إلى أوان التفرق .
وأما خيار إلحاق الزيادة بالثمن أو بالمثمن : فلا يمكن الحمل عليه عند من يرى ثبوته مطلقا ، أو عدمه مطلقا ; لأن ذلك الخيار : إن لم يكن لهما . فلا يكون لهما إلى أوان التفرق ، وإن كان : فيبقى بعد التفرق عن المجلس فكيفما كان لا يكون ذلك الخيار لهما ثابتا ، مغيا إلى غاية التفرق . والخيار المثبت بالنص ههنا : هو خيار مغيا إلى غاية التفرق . ثم الدليل على أن المراد من الخيار هذا ومن المتبايعين ، ما ذكر : أن مالكا نسب إلى مخالفة الحديث . وذلك لا يصح إلا إذا حمل الخيار " و " المتبايعان " و " الافتراق " على ما ذكر . هكذا قال بعض النظار ، إلا أنه ضعيف . فإن نسبة مالك إلى ذلك ليست من كل الأمة ولا أكثرهم .