قال الشيخ رحمه الله : حديث حسن رويناه في " مسندي " الإمامين أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14272والدارمي بإسناد حسن .
أما حديث النواس بن سمعان ، فخرجه مسلم من رواية معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس ، ومعاوية وعبد الرحمن ، وأبوه تفرد بتخريج حديثهم مسلم دون nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
والثاني : ضعف الزبير هذا ، قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : روى أحاديث مناكير ، وضعفه nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان أيضا ، لكنه سماه أيوب بن عبد السلام ، فأخطأ في اسمه ، وله طريق آخر عن وابصة خرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد أيضا من رواية معاوية بن صالح عن أبي عبد الله السلمي ، قال : سمعت وابصة ، فذكر الحديث مختصرا ، ولفظه : قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950996البر ما انشرح له صدرك ، والإثم ما حاك في صدرك ، وإن أفتاك عنه الناس .
والسلمي هذا ، قال nindex.php?page=showalam&ids=16604علي بن المديني : هو مجهول .
وخرجه البزار nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني وعندهما أبو عبد الله الأسدي ، وقال البزار : لا نعلم أحدا سماه ، كذا قال ، وقد سمي في بعض الروايات محمدا . قال nindex.php?page=showalam&ids=16390عبد الغني بن سعيد الحافظ : لو قال قائل : إنه nindex.php?page=showalam&ids=14788محمد بن سعيد المصلوب ، لما دفعت ذلك ، والمصلوب هذا صلبه المنصور في الزندقة ، وهو مشهور بالكذب والوضع ، ولكنه لم يدرك وابصة ، والله أعلم .
[ ص: 95 ] وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة وبعض طرقه جيدة ، فخرجه nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان في " صحيحه " من طريق nindex.php?page=showalam&ids=17298يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي أمامة ، قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=950997قال رجل : يا رسول الله ، ما الإثم ؟ قال : إذا حاك في صدرك شيء فدعه وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ، فإنه خرج حديث يحيى بن كثير عن زيد بن سلام ، وأثبت أحمد سماعه منه ، وإن أنكره nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني وغيره بإسناد ضعيف من حديث nindex.php?page=showalam&ids=105واثلة بن الأسقع قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : أفتني عن أمر لا أسألك عنه أحدا بعدك ، قال : استفت نفسك قلت : كيف لي بذاك ؟ قال : تدع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وإن أفتاك المفتون ، قلت : وكيف بذاك ؟ قال : تضع يدك على قلبك ، فإن الفؤاد يسكن للحلال ولا يسكن للحرام . ويروى نحوه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة بإسناد ضعيف أيضا .
[ ص: 96 ] وروى nindex.php?page=showalam&ids=16457ابن لهيعة عن nindex.php?page=showalam&ids=17346يزيد بن أبي حبيب أن سويد بن قيس أخبره عن nindex.php?page=showalam&ids=16348عبد الرحمن بن معاوية : أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ما يحل لي مما يحرم علي ؟ وردد عليه ثلاث مرار ، كل ذلك يسكت النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله ، فقال بأصابعه : ما أنكر قلبك فدعه . خرجه nindex.php?page=showalam&ids=13890أبو القاسم البغوي في " معجمه " وقال : لا أدري nindex.php?page=showalam&ids=16348عبد الرحمن بن معاوية سمع من النبي صلى الله عليه وسلم أم لا ؟ ولا أعلم له غير هذا الحديث . قلت : هو عبد الرحمن بن معاوية بن حديج جاء منسوبا في كتاب " الزهد " nindex.php?page=showalam&ids=16418لابن المبارك ، وعبد الرحمن هذا تابعي مشهور ، فحديثه مرسل .
وقد صح عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه قال : " الإثم حواز القلوب " . واحتج به nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد ، ورواه عن جرير ، عن منصور ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال عبد الله : إياكم وحزاز القلوب ، وما حز في قلبك من شيء فدعه .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء : الخير في طمأنينة والشر في ريبة .
وروي عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له : أرأيت شيئا يحيك في صدورنا ، لا ندري أحلال هو أم حرام ؟ فقال : وإياكم والحكاكات ، فإنهن الإثم ، والحز والحك متقاربان في المعنى ، والمراد : ما أثر في القلب ضيقا [ ص: 97 ] وحرجا ، ونفورا وكراهة .
فهذه الأحاديث مشتملة على تفسير البر والإثم ، وبعضها في تفسير الحلال والحرام ، فحديث النواس بن سمعان فسر النبي صلى الله عليه وسلم فيه البر بحسن الخلق ، وفسره في حديث وابصة وغيره بما اطمأن إليه القلب والنفس ، كما فسر الحلال بذلك في حديث أبي ثعلبة . وإنما اختلف تفسيره للبر ، لأن البر يطلق باعتبارين معينين : أحدهما : باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، وربما خص بالإحسان إلى الوالدين ، فيقال : بر الوالدين ، ويطلق كثيرا على الإحسان إلى الخلق عموما ، وقد صنف nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك كتابا سماه " كتاب البر والصلة " ، وكذلك في " صحيح nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري " و " جامع الترمذي " : " كتاب البر والصلة " ، ويتضمن هذا الكتاب الإحسان إلى الخلق عموما ، ويقدم فيه بر الوالدين على غيرهما . وفي حديث بهز بن حكيم عن أبيه ، عن جده ، أنه قال : nindex.php?page=hadith&LINKID=951001يا رسول الله من أبر ؟ قال : أمك قال : ثم من ؟ قال : ثم أباك ، قال : ثم من ؟ قال : ثم الأقرب فالأقرب .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنهما يقول : البر شيء هين : وجه طليق وكلام لين .
وإذا قرن البر بالتقوى ، كما في قوله عز وجل : وتعاونوا على البر والتقوى [ المائدة : 2 ] ، فقد يكون المراد بالبر معاملة الخلق بالإحسان ، وبالتقوى : معاملة الحق بفعل طاعته ، واجتناب محرماته ، وقد يكون أريد بالبر فعل الواجبات ، وبالتقوى : اجتناب المحرمات ، وقوله تعالى : ولا تعاونوا على الإثم والعدوان [ المائدة : 2 ] قد يراد بالإثم : المعاصي ، وبالعدوان : ظلم الخلق ، وقد يراد بالإثم : ما هو محرم في نفسه كالزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، وبالعدوان : تجاوز ما أذن فيه إلى ما نهي عنه مما جنسه مأذون فيه ، كقتل ما أبيح قتله لقصاص ومن لا يباح ، وأخذ زيادة على الواجب من الناس في الزكاة ونحوها ، ومجاوزة الجلد في الذي أمر به في الحدود ونحو ذلك .
[ ص: 99 ] فالبر بهذا المعنى يدخل فيه جميع الطاعات الباطنة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والطاعات الظاهرة كإنفاق الأموال فيما يحبه الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والوفاء بالعهد ، والصبر على الأقدار ، كالمرض والفقر ، وعلى الطاعات ، كالصبر عند لقاء العدو .
وقد يكون جواب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النواس شاملا لهذه الخصال كلها ، لأن حسن الخلق قد يراد به التخلق بأخلاق الشريعة ، والتأدب بآداب الله التي أدب بها عباده في كتابه ، كما قال تعالى لرسوله وإنك لعلى خلق عظيم [ القلم : 4 ] ، nindex.php?page=hadith&LINKID=951004وقالت عائشة : كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن ، يعني أنه يتأدب بآدابه ، فيفعل أوامره ، ويتجنب نواهيه ، فصار العمل بالقرآن له خلقا كالجبلة والطبيعة لا يفارقه ، وهذا أحسن الأخلاق وأشرفها وأجملها .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل : أحذركم زيغة الحكيم ، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم ، وقد يقول المنافق كلمة الحق ، فقيل لمعاذ : ما يدريني أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة ، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق ؟ قال : اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال : ما هذه ؟ ولا يثنيك ذلك عنه ، فإنه لعله أن يراجع ، وتلق الحق إذا سمعته ، فإن على الحق نورا ، خرجه أبو داود . وفي رواية له قال : بل ما تشابه عليك من قول الحكيم حتى تقول : ما أراد بهذه الكلمة ؟ فهذا يدل على أن الحق والباطل لا يلتبس أمرهما على المؤمن البصير ، بل يعرف الحق بالنور عليه ، فيقبله قلبه ، وينفر عن الباطل ، فينكره ولا يعرفه ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=951009سيكون في آخر الزمان قوم يحدثونكم بما لم [ ص: 101 ] تسمعوا أنتم ولا آباؤكم ، فإياكم وإياهم يعني : أنهم يأتون بما تستنكره قلوب المؤمنين ، ولا تعرفه ، وفي قوله : أنتم ولا آباؤكم إشارة إلى أن ما استقرت معرفته عند المؤمنين مع تقادم العهد وتطاول الزمان ، فهو الحق ، وأن ما أحدث بعد ذلك مما يستنكر فلا خير فيه .
فدل حديث وابصة وما في معناه على الرجوع إلى القلوب عند الاشتباه ، فما إليه سكن القلب ، وانشرح إليه الصدر ، فهو البر والحلال ، وما كان خلاف ذلك ، فهو الإثم والحرام .
وقوله في حديث النواس : nindex.php?page=hadith&LINKID=951010الإثم ما حاك في الصدر ، وكرهت أن يطلع عليه الناس إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجا ، وضيقا ، وقلقا ، واضطرابا ، فلم ينشرح له الصدر ، ومع هذا ، فهو عند الناس مستنكر ، بحيث ينكرونه عند اطلاعهم عليه ، وهذا أعلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه ، وهو ما استنكره الناس على فاعله وغير فاعله .
ومن هذا المعنى قول nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : ما رآه المؤمنون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما رآه المومنون قبيحا ، فهو عند الله قبيح .
[ ص: 102 ] وقوله في حديث وابصة وأبي ثعلبة : nindex.php?page=hadith&LINKID=951011وإن أفتاك المفتون يعني : أن ما حاك في صدر الإنسان فهو إثم ، وإن أفتاه غيره بأنه ليس ، بإثم فهذه مرتبة ثانية ، وهو أن يكون الشيء مستنكرا عند فاعله دون غيره ، وقد جعله أيضا إثما ، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شرح صدره بالإيمان ، وكان المفتي يفتي له بمجرد ظن أو ميل إلى هوى من غير دليل شرعي ، فأما ما كان مع المفتي به دليل شرعي ، فالواجب على المستفتي الرجوع إليه ، وإن لم ينشرح له صدره ، وهذا كالرخصة الشرعية ، مثل : الفطر في السفر ، والمرض ، وقصر الصلاة في السفر ، ونحو ذلك مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال ، فهذا لا عبرة به .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا يأمر أصحابه بما لا تنشرح به صدور بعضهم ، فيمتنعون من فعله ، فيغضب من ذلك ، كما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، فكرهه من كرهه منهم ، وكما أمرهم بنحر هديهم ، والتحلل من عمرة الحديبية ، فكرهوه ، وكرهوا مقاضاته لقريش على أن يرجع من عامه ، وعلى أن من أتاه منهم يرده إليهم .
وأما ما ليس فيه نص من الله ورسوله ولا عمن يقتدى بقوله من الصحابة وسلف الأمة ، فإذا وقع في نفس المؤمن المطمئن قلبه بالإيمان ، المنشرح صدره بنور المعرفة واليقين منه شيء ، وحك في صدره لشبهة موجودة ، ولم يجد من يفتي فيه بالرخصة إلا من يخبر عن رأيه وهو ممن لا يوثق بعلمه وبدينه ، بل هو معروف باتباع الهوى ، فهنا يرجع المؤمن إلى ما حك في صدره ، وإن أفتاه هؤلاء المفتون .
وقد نص nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد على مثل هذا ، أيضا قال المروزي في " كتاب الورع " قلت : لأبي عبد الله إن القطيعة أرفق بي من سائر الأسواق ، وقد وقع في قلبي من أمرها شيء ، فقال : أمرها أمر قذر متلوث ، قلت : فتكره العمل فيها ؟ قال : دع ذا عنك إن كان لا يقع في قلبك شيء ، قلت : قد وقع في قلبي منها ، فقال : قال : nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : الإثم حواز القلوب . قلت : إنما هذا على المشاورة ؟ قال : أي شيء يقع في قلبك ؟ قلت : قد اضطرب علي قلبي ، قال : الإثم هو حواز القلوب .
وقد ذكر طوائف من فقهاء الشافعية والحنفية المتكلمين في أصول الفقه [ ص: 104 ] مسألة الإلهام : هل هو حجة أم لا ؟ وذكروا فيه اختلافا بينهم ، وذكر طائفة من أصحابنا أن الكشف ليس بطريق للأحكام ، وأخذه القاضي أبو يعلى من كلام أحمد في ذم المتكلمين في الوساوس والخطرات ، وخالفهم طائفة من أصحابنا في ذلك ، وقد ذكرنا نص أحمد هاهنا بالرجوع إلى حواز القلوب ، وإنما ذم أحمد وغيره المتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند إلى دليل شرعي ، بل إلى مجرد رأي وذوق ، كما كان ينكر الكلام في مسائل الحلال والحرام بمجرد الرأي من غير دليل شرعي .
فأما الرجوع إلى الأمور المشتبهة إلى حواز القلوب ، فقد دلت عليه النصوص النبوية ، وفتاوى الصحابة ، فكيف ينكره nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد بعد ذلك ؟ لا سيما وقد نص على الرجوع إليه موافقة لهم . وقد سبق حديث : nindex.php?page=hadith&LINKID=951013إن الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة ، فالصدق يتميز من الكذب بسكون القلب إليه ، ومعرفته ، وبنفوره عن الكذب وإنكاره ، كما قال nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع بن خثيم : إن للحديث ضوءا كضوء النهار تعرفه ، وظلمة كظلمة الليل تنكره .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=17294يحيى بن آدم عن nindex.php?page=showalam&ids=12493ابن أبي ذئب عن nindex.php?page=showalam&ids=15985سعيد المقبري عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا حدثتم عني حديثا تعرفونه ، ولا تنكرونه ، فصدقوا به ، فإني أقول ما يعرف ولا ينكر ، وإذا حدثتم عني حديثا تنكرونه ولا تعرفونه ، فلا تصدقوا به ، فإني لا أقول ما ينكر ولا يعرف ، وهذا الحديث معلول أيضا ، وقد اختلف في إسناده على nindex.php?page=showalam&ids=12493ابن أبي ذئب ، ورواه الحفاظ عنه عن سعيد مرسلا ، والمرسل أصح عند أئمة الحفاظ ، منهم nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري ، nindex.php?page=showalam&ids=11970وأبو حاتم الرازي nindex.php?page=showalam&ids=13114وابن خزيمة ، وقال : ما رأيت أحدا من علماء الحديث يثبت وصله .
وإنما تحمل مثل هذه الأحاديث - على تقدير صحتها - على معرفة أئمة أهل الحديث الجهابذة النقاد ، الذين كثرت ممارستهم لكلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكلام غيره ، ولحال رواة الأحاديث ، ونقلة الأخبار ، ومعرفتهم بصدقهم وكذبهم وحفظهم وضبطهم ، فإن هؤلاء لهم نقد خاص في الحديث يختصون بمعرفته ، كما يختص الصيرفي الحاذق بمعرفة النقود جيدها ورديئها ، وخالصها ومشوبها ، والجوهري الحاذق في معرفة الجوهر بانتقاد الجواهر ، وكل من هؤلاء لا يمكن أن يعبر عن سبب معرفته ، ولا يقيم عليه دليلا لغيره ، وآية ذلك أنه يعرض الحديث الواحد على جماعة ممن يعلم هذا العلم ، فيتفقون على الجواب فيه من غير مواطأة .
وقد امتحن هذا منهم غير مرة في زمن أبي زرعة وأبي حاتم ، فوجد الأمر على ذلك ، فقال السائل : أشهد أن هذا العلم إلهام . قال nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش : كان nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي صيرفيا في الحديث ، كنت أسمع من الرجال فأعرض عليه ما سمعته . وقال عمرو بن قيس : ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي الذي ينقد الدراهم ، فإن الدراهم فيها الزائف والبهرج وكذا الحديث .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي : كنا نسمع الحديث فنعرضه على أصحابنا كما نعرض الدرهم الزائف على الصيارفة ، فما عرفوا أخذنا ، وما أنكروا تركنا .
وقيل nindex.php?page=showalam&ids=16349لعبد الرحمن بن مهدي : إنك تقول للشيء : هذا صحيح وهذا لم يثبت ، فعمن تقول ذلك ؟ فقال : أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك ، فقال : هذا جيد ، وهذا بهرج أكنت تسأله عمن ذلك ، أو تسلم الأمر إليه ؟ قال : لا ، بل كنت أسلم الأمر إليه ، قال : فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبر به .
وقد روي نحو هذا المعنى عن nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد أيضا ، وأنه قيل له : يا أبا عبد الله تقول : هذا الحديث منكر ، فكيف علمت ولم تكتب الحديث كله ؟ قال : [ ص: 107 ] مثلنا كمثل ناقد العين لم تقع بيده العين كلها ، فإذا وقع بيده الدينار يعلم بأنه جيد ، أو أنه رديء .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16349ابن مهدي : معرفة الحديث إلهام . وقال : إنكارنا الحديث عند الجهال كهانة .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم الرازي : مثل معرفة الحديث كمثل فص ثمنه مائة دينار ، وآخر مثله على لونه ثمنه عشرة دراهم ، قال : وكما لا يتهيأ للناقد أن يخبر بسبب نقده ، فكذلك نحن رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبر كيف علمنا بأن هذا حديث كذب ، وأن هذا حديث منكر إلا بما نعرفه ، قال : وتعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره ، فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش ، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره ، فإن خالفه في المائية والصلابة ، علم أنه زجاج ، ويعلم صحة الحديث بعدالة ناقليه وأن يكون كلاما يصلح مثله أن يكون كلام النبوة ، ويعرف سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم .
وبكل حال فالجهابذة النقاد العارفون بعلل الحديث أفراد قليل من أهل الحديث جدا ، وأول من اشتهر في الكلام في نقد الحديث nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين ، ثم خلفه nindex.php?page=showalam&ids=12341أيوب السختياني ، وأخذ ذلك عنه شعبة ، وأخذ عن شعبة nindex.php?page=showalam&ids=17293يحيى القطان nindex.php?page=showalam&ids=16349وابن مهدي ، وأخذ عنهما أحمد ، nindex.php?page=showalam&ids=16604وعلي بن المديني ، nindex.php?page=showalam&ids=17336وابن معين ، وأخذ عنهم مثل nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وأبي داود وأبي زرعة وأبي حاتم .
وكان أبو زرعة في زمانه يقول : قل من يفهم هذا ، وما أعزه إذا دفعت هذا عن واحد واثنين ، فما أقل من تجد من يحسن هذا ! ولما مات أبو زرعة ، قال أبو حاتم : ذهب الذي كان يحسن هذا - يعني أبا زرعة - ما بقي بمصر ولا [ ص: 108 ] بالعراق واحد يحسن هذا . وقيل له بعد موت أبي زرعة : تعرف اليوم واحدا يعرف هذا ؟ قال : لا .
وجاء بعد هؤلاء جماعة ، منهم nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي nindex.php?page=showalam&ids=14798والعقيلي nindex.php?page=showalam&ids=13357وابن عدي nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني ، وقل من جاء بعدهم من هو بارع في معرفة ذلك حتى قال nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج الجوزي في أول كتابه " الموضوعات " : قد قل من يفهم هذا بل عدم . والله أعلم .