هذا الحديث من رواية مكحول عن nindex.php?page=showalam&ids=1500أبي ثعلبة الخشني ، وله علتان : إحداهما : أن مكحولا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة ، كذلك قال nindex.php?page=showalam&ids=12153أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما .
والثانية : أنه اختلف في رفعه ووقفه على أبي ثعلبة ، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله ، لكن قال nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : الأشبه بالصواب المرفوع ، قال : وهو أشهر .
وقد حسن الشيخ رحمه الله هذا الحديث ، وكذلك حسن قبله الحافظ أبو بكر بن السمعاني في " أماليه " .
وقد روي معنى هذا الحديث مرفوعا من وجوه أخر ، خرجه البزار في [ ص: 151 ] " مسنده " والحاكم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية : وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] ، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، وقال البزار : إسناده صالح .
وقد خرجه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني nindex.php?page=showalam&ids=14269والدارقطني من وجه آخر عن nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي ثعلبة ، وقال في آخره : nindex.php?page=hadith&LINKID=2004581رحمة من الله فاقبلوها ولكن إسناده ضعيف .
وقال الترمذي : رواه nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان - يعني ابن عيينة - عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن سلمان من قوله ، قال : وكأنه أصح . وذكر في كتاب " العلل " عن nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري أنه قال في الحديث المرفوع : ما أراه محفوظا ، وقال أحمد : هو منكر ، [ ص: 152 ] وأنكره nindex.php?page=showalam&ids=17336ابن معين أيضا ، وقال nindex.php?page=showalam&ids=11970أبو حاتم الرازي : هو خطأ ، رواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ليس فيه سلمان .
قلت : وقد روي عن سلمان من قوله من وجوه أخر .
وخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر مرفوعا وضعف إسناده .
ورواه أبو صالح المري ، عن الجريري ، عن nindex.php?page=showalam&ids=12081أبي عثمان النهدي ، عن عائشة مرفوعا وأخطأ في إسناده .
وروي عن الحسن مرسلا .
وخرج أبو داود من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ، ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل ، فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما [ الأنعام : 145 ] الآية ، وهذا موقوف .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير : إن الله عز وجل أحل حلالا وحرم حراما ، وما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو .
فحديث أبي ثعلبة قسم فيه أحكام الله أربعة أقسام : فرائض ، ومحارم ، وحدود ، ومسكوت عنه ، وذلك يجمع أحكام الدين كلها .
[ ص: 153 ] قال nindex.php?page=showalam&ids=15584أبو بكر السمعاني : هذا الحديث أصل كبير من أصول الدين ، قال : وحكي عن بعضهم أنه قال : ليس في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث واحد أجمع بانفراده لأصول العلم وفروعه من حديث أبي ثعلبة ، قال : وحكي عن أبي واثلة المزني أنه قال : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الدين في أربع كلمات ، ثم ذكر حديث أبي ثعلبة .
قال ابن السمعاني : فمن عمل بهذا الحديث ، فقد حاز الثواب ، وأمن العقاب ؛ لأن من أدى الفرائض ، واجتنب المحارم ، ووقف عند الحدود ، وترك البحث عما غاب عنه ، فقد استوفى أقسام الفضل ، وأوفى حقوق الدين ، لأن الشرائع لا تخرج عن هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث انتهى .
فأما الفرائض فما فرضه الله على عباده وألزمهم القيام به ، كالصلاة والزكاة والصيام والحج .
وقد اختلف العلماء : هل الواجب والفرض بمعنى واحد أم لا ؟ فمنهم من قال : هما سواء ، وكل واجب بدليل شرعي بكتاب أو سنة أو إجماع أو غير ذلك من أدلة الشرع فهو فرض ، وهو المشهور عن أصحاب nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وغيرهم ، وحكي رواية عن أحمد ؛ لأنه قال : كل ما في الصلاة فهو فرض .
وأكثر النصوص عن أحمد تفرق بين الفرض والواجب ، فنقل جماعة من أصحابه عنه أنه قال : لا يسمى فرضا إلا ما كان في كتاب الله تعالى ، وقال في صدقة الفطر : ما أجترئ أن أقول : إنها فرض ، مع أنه يقول بوجوبها ، فمن أصحابنا من قال : مراده أن الفرض ما يثبت بالكتاب ، والواجب ما ثبت بالسنة ، ومنهم من قال : أراد أن الفرض ما ثبت بالاستفاضة والنقل المتواتر ، والواجب ما ثبت من جهة الاجتهاد ، وساغ الخلاف في وجوبه .
[ ص: 154 ] ويشكل على هذا أن أحمد قال في رواية الميموني في بر الوالدين : ليس بفرض ، ولكن أقول : واجب ما لم يكن معصية ، وبر الوالدين مجمع على وجوبه ، وقد كثرت الأوامر به في الكتاب والسنة ، فظاهر هذا أنه لا يقول : فرض ، إلا ما ورد في الكتاب والسنة فرضا .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=16500عبد الواحد بن زيد ، عن الحسن ؛ فقال : ليس بفريضة ، كان فريضة على بني إسرائيل ، فرحم الله هذه الأمة لضعفهم ، فجعله عليهم نافلة .
وكتب nindex.php?page=showalam&ids=16438عبد الله بن شبرمة إلى nindex.php?page=showalam&ids=16711عمرو بن عبيد أبياتا مشهورة أولها :
الأمر بالمعروف يا عمرو نافلة والقائمون به لله أنصار
وقال nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق ابن راهويه : هو واجب على كل مسلم ، إلا أن يخشى على نفسه ، ولعل أحمد يتوقف في إطلاق الواجب على ما ليس بواجب على الأعيان ، بل على الكفاية .
وقد اختلف العلماء في الجهاد : هل هو واجب أم لا ؟ فأنكر جماعة منهم وجوبه ، منهم : عطاء ، nindex.php?page=showalam&ids=16705وعمرو بن دينار ، nindex.php?page=showalam&ids=16438وابن شبرمة ، ولعلهم أرادوا هذا المعنى ، وقالت طائفة : هو واجب ، منهم nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب ، ومكحول ، ولعلهما أرادا وجوبه على الكفاية .
وسأله المروزي عن الجهاد : أفرض هو ؟ قال : قد اختلفوا فيه ، وليس هو مثل الحج ، ومراده : أن الحج لا يسقط عمن لم يحج مع الاستطاعة بحج غيره ، بخلاف الجهاد .
وسئل عن النفير : متى يجب ؟ فقال : أما إيجاب فلا أدري ، ولكن إذا خافوا على أنفسهم ، فعليهم أن يخرجوا .
وظاهر هذا التوقف في إطلاق لفظ الواجب على ما لم يأت فيه لفظ الإيجاب تورعا ، ولذلك توقف في إطلاق لفظ الحرام على ما اختلف فيه ، وتعارضت أدلته من نصوص الكتاب أو السنة ، فقال في متعة النساء : لا أقول : هي حرام ، ولكن ينهى عنه ، ولم يتوقف في معنى التحريم ، ولكن في إطلاق لفظه ، لاختلاف النصوص والصحابة فيها ، هذا هو الصحيح في تفسير كلام أحمد .
قال nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع بن خثيم : ليتق أحدكم أن يقول : أحل الله كذا ، وحرم كذا ، فيقول الله : كذبت ، لم أحل كذا ولم أحرم كذا .
وقال ابن وهب : سمعت nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس يقول : أدركت علماءنا يقول أحدهم إذا سئل : أكره هذا ، ولا أحبه ، ولا يقول : حلال ولا حرام .
[ ص: 156 ] وأما ما حكي عن أحمد أنه قال : كل ما في الصلاة فهو فرض فليس كلامه كذلك إنما نقل عنه ابنه عبد الله أنه قال : كل شيء في الصلاة مما وكده الله فهو فرض ، وهذا يعود إلى معنى قوله : إنه لا فرض إلا ما في القرآن والذي وكده الله من أمر الصلاة : القيام والقراءة والركوع والسجود ، وإنما قال أحمد هذا لأن بعض الناس كان يقول : الصلاة فرض ، والركوع والسجود لا أقول إنه فرض ، ولكنه سنة . وقد سئل nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس عمن يقول ذلك ، فكفره ، فقيل له : إنه يتأول ، فلعنه ، فقال : لقد قال قولا عظيما . وقد نقله أبو بكر النيسابوري في كتاب " مناقب مالك " من وجوه عنه .
وروى أيضا بإسناده عن عبد الله بن عمرو بن ميمون بن الرماح ، قال : دخلت على nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس ، فقلت : يا أبا عبد الله ، ما في الصلاة من فريضة وما فيها من سنة ، أو قال : نافلة ؟ فقال مالك : كلام الزنادقة أخرجوه .
ونقل nindex.php?page=showalam&ids=15106إسحاق بن منصور عن nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق ابن راهويه أنه أنكر تقسيم أجزاء الصلاة إلى سنة وواجب ، فقال : كل ما في الصلاة ، فهو واجب ، وأشار إلى أن منه ما تعاد الصلاة بتركه ، ومنه ما لا تعاد .
وسبب هذا - والله أعلم - أن التعبير بلفظ السنة قد يفضي إلى التهاون بفعل ذلك ، وإلى الزهد فيه وتركه ، وهذا خلاف مقصود الشارع من الحث عليه ، والترغيب فيه بالطرق المؤدية إلى فعله وتحصيله ، فإطلاق لفظ الواجب أدعى إلى الإتيان به والرغبة فيه .
[ ص: 157 ] وقد ورد إطلاق الواجب في كلام الشارع على ما لا يأثم بتركه ، ولا يعاقب عليه عند الأكثرين ، كغسل الجمعة ، وكذلك ليلة الضيف عند كثير من العلماء أو أكثرهم ، وإنما المراد به المبالغة في الحث على فعله وتأكيده .
وأما المحارم فهي التي حماها الله تعالى ومنع من قربانها وارتكابها وانتهاكها .
وأما النهي المجرد ، فقد اختلف الناس : هل يستفاد منه التحريم أم لا ؟ وقد روي عن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر إنكار استفادة التحريم منه . قال nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك : أخبرنا nindex.php?page=showalam&ids=16012سلام بن أبي مطيع ، عن ابن أبي دخيلة ، عن أبيه قال : كنت عند nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، فقال nindex.php?page=hadith&LINKID=951112نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزبيب والتمر ، يعني : أن يخلطا ، فقال لي رجل من خلفي : ما قال ؟ فقلت : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبيب والتمر ، فقال عبد الله بن عمر : كذبت ، فقلت : ألم تقل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ، فهو حرام ؟ فقال : أنت تشهد [ ص: 159 ] بذاك ؟ قال سلام : كأنه يقول : من نهي النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أدب .
وقال النخعي : كانوا يكرهون أشياء لا يحرمونها ، وقال ابن عون : قال لي مكحول : ما تقولون في الفاكهة تلقى بين القوم فينتهبونها ؟ قلت : إن ذلك عندنا لمكروه ، قال : حرام هي ؟ قال ابن عون : فاستجفينا ذلك من قول مكحول .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=15639جعفر بن محمد : سمعت رجلا يسأل nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد : الغناء أحرام هو ؟ فسكت عنه القاسم ، ثم عاد ، فسكت عنه ، ثم عاد ، فقال له : إن الحرام ما حرم الله في القرآن ؟ أرأيت إذا أتي بالحق والباطل إلى الله ، فأيهما يكون الغناء ؟ فقال الرجل : في الباطل ، فقال : فأنت ، فأفت نفسك .
فضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثل الإسلام في هذا الحديث بصراط مستقيم ، وهو الطريق السهل الواسع ، الموصل سالكه إلى مطلوبه ، وهو - مع هذا - مستقيم ، لا عوج فيه ، فيقتضي ذلك قربه وسهولته ، وعلى جنبتي الصراط يمنة ويسرة سوران ، وهما حدود الله ، وكما أن السور يمنع من كان داخله من تعديه ومجاوزته ، فكذلك الإسلام يمنع من دخله من الخروج عن حدوده ومجاوزتها ، وليس وراء ما حد الله من المأذون فيه إلا ما نهى عنه ، ولهذا مدح سبحانه الحافظين لحدوده ، وذم من لا يعرف حد الحلال من الحرام ، كما قال تعالى : الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله [ التوبة : 97 ] وقد تقدم حديث القرآن وأنه يقول لمن عمل به : حفظ حدودي ، ولمن لم يعمل به : تعدى حدودي .
والمراد : أن من لم يجاوز ما أذن له فيه إلى ما نهي عنه ، فقد حفظ حدود [ ص: 162 ] الله ، ومن تعدى ذلك ، فقد تعدى حدود الله .
وقد حمل بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم : وحد حدودا فلا تعتدوها على هذه العقوبات الزاجرة عن المحرمات ، وقال : المراد النهي عن تجاوز هذه الحدود وتعديها عند إقامتها على أهل الجرائم . ورجح ذلك بأنه لو كان المراد بالحدود الوقوف عند الأوامر والنواهي ، لكان تكريرا لقوله : فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم أشياء ، فلا تنتهكوها وليس المراد على ما قاله ، فإن الوقوف عند الحدود يقتضي أنه لا يخرج عما أذن فيه إلا ما نهى عنه ، وذلك أعم من كون المأذون فيه فرضا أو ندبا أو مباحا كما تقدم ، وحينئذ فلا تكرير في هذا الحديث ، والله أعلم .
وأما المسكوت عنه ، فهو ما لم يذكر حكمه بتحليل ، ولا إيجاب ، ولا تحريم ، فيكون معفوا عنه ، لا حرج على فاعله ، وعلى هذا دلت هذه الأحاديث المذكورة هاهنا ، كحديث أبي ثعلبة وغيره .
ولكن مما ينبغي أن يعلم : أن ذكر الشيء بالتحريم والتحليل مما قد يخفى فهمه من نصوص الكتاب والسنة ، فإن دلالة هذه النصوص قد تكون بطريق النص والتصريح ، وقد تكون بطريق العموم والشمول ، وقد تكون دلالته بطريق الفحوى والتنبيه ، كما في قوله تعالى : فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما [ الإسراء : 23 ] ، فإن دخول ما هو أعظم من التأفيف من أنواع الأذى يكون بطريق الأولى ، ويسمى ذلك مفهوم الموافقة .
وقد تكون دلالته بطريق مفهوم المخالفة ، كقوله : في الغنم السائمة الزكاة فإنه يدل بمفهومه على أنه لا زكاة في غير السائمة ، وقد أخذ الأكثرون بذلك ، واعتبروا بمفهوم المخالفة ، وجعلوه حجة .
[ ص: 165 ] وقد تكون دلالته من باب القياس ، فإذا نص الشارع على حكم في شيء لمعنى من المعاني ، وكان ذلك المعنى موجودا في غيره ، فإنه يتعدى الحكم إلى كل ما وجد في ذلك المعنى عند جمهور العلماء ، وهو من باب العدل والميزان الذي أنزل الله ، وأمر بالاعتبار به ، فهذا كله مما يعرف به دلالة النصوص على التحليل والتحريم .
فأما ما انتفى فيه ذلك كله ، فهنا يستدل بعدم ذكره بإيجاب أو تحريم على أنه معفو عنه ، وهاهنا مسلكان : أحدهما : أن يقال لا إيجاب ولا تحريم إلا بالشرع ، وما لم يوجب الشرع كذا ، أو لم يحرمه ، فيكون غير واجب ، أو غير حرام ، كما يقال مثل هذا في الاستدلال على نفي وجوب الوتر والأضحية ، أو نفي تحريم الضب ونحوه ، أو نفي تحريم بعض العقود المختلف فيها ، كالمساقاة والمزارعة ونحو ذلك ، ويرجع هذا إلى استصحاب براءة الذمة حيث لم يوجد ما يدل على اشتغالها ، ولا يصلح هذا الاستدلال إلا لمن عرف أنواع أدلة الشرع وسبرها ، فإن قطع - مع ذلك - بانتفاء ما يدل على إيجاب أو تحريم ، قطع بنفي الوجوب أو التحريم ، كما يقطع بانتفاء فريضة صلاة سادسة ، أو صيام شهر غير شهر رمضان ، أو وجوب الزكاة في غير الأموال الزكوية ، أو حجة غير حجة الإسلام ، وإن كان هذا كله يستدل عليه بنصوص مصرحة بذلك ، وإن ظن انتفاء ما يدل على إيجاب أو تحريم ، ظن انتفاء الوجوب والتحريم من غير قطع .
واعلم أن هذه المسألة غير مسألة حكم الأعيان قبل ورود الشرع : هل هو الحظر أو الإباحة ، أو لا حكم فيها ؟ فإن تلك المسألة مفروضة فيما قبل ورود الشرع ، فأما بعد وروده ، فقد دلت هذه النصوص وأشباهها على أن حكم ذاك الأصل زال واستقر أن الأصل في الأشياء الإباحة بأدلة الشرع . وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك ، وغلطوا من سوى بين المسألتين ، وجعل حكمهما واحدا .
وكلام nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد يدل على أن ما لا يدخل في نصوص التحريم ، فإنه [ ص: 167 ] معفو عنه . قال أبو الحارث : قلت : nindex.php?page=showalam&ids=12251لأبي عبد الله - يعني أحمد - : إن أصحاب الطير يذبحون من الطير شيئا لا نعرفه ، فما ترى في أكله ؟ فقال : كل ما لم يكن ذا مخلب أو يأكل الجيف ، فلا بأس به ، فحصر تحريم الطير في ذي المخلب المنصوص عليه وما يأكل الجيف ، لأنه في معنى الغراب المنصوص عليه وحكم بإباحة ما عداهما . وحديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس الذي سبق ذكره يدل على مثل هذا ، وحديث nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي فيه النهي عن السؤال عن الجبن والسمن والفراء ، فإن الجبن كان يصنع بأرض المجوس ونحوهم من الكفار ، وكذلك السمن ، وكذلك الفراء تجلب من عندهم ، وذبائحهم ميتة ، وهذا مما يستدل به على إباحة لبن الميتة وأنفحتها ، وعلى إباحة طعام المجوس ، وفي ذلك كله خلاف مشهور ، ويحمل على أنه إذا اشتبه الأمر ، لم يجب السؤال والبحث عنه ، كما قال nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر لما سئل عن الجبن الذي يصنعه المجوس ، فقال : ما وجدته في سوق المسلمين اشتريته ولم أسأل عنه ، وذكر عند عمر الجبن وقيل له : إنه يصنع بأنافح الميتة ، فقال : سموا الله وكلوا . قال nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد : أصح حديث فيه هذا الحديث ، يعني : جبن المجوس .
وسئل nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد عن لبس ما يصنعه أهل الكتاب من غير غسل ، فقال : [ ص: 169 ] لم تسأل عما لا تعلم ، لم يزل الناس منذ أدركناهم لا ينكرون ذلك . وسئل عن يهود يصبغون بالبول ، فقال المسلم والكافر في هذا سواء ، ولا تسأل عن هذا ، ولا تبحث عنه ، وقال : إذا علمت أنه لا محالة يصبغ بشيء من البول ، وصح عندك ، فلا تصل فيه حتى تغسله .
وخرج من حديث nindex.php?page=showalam&ids=19المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه خفان ، فلبسهما ولا يعلم أذكي هما أم لا .
وخرج الأثرم بإسناده عن nindex.php?page=showalam&ids=15950زيد بن وهب ، قال : أتانا كتاب عمر بأذربيجان : إنكم بأرض فيها الميتة ، فلا تلبسوا من الفراء حتى تعلموا حله من حرامه .
وروى الخلال بإسناده عن مجاهد أن nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رأى على رجل فروا ، فمسه ، وقال : لو أعلم أنه ذكي ، لسرني أن يكون لي منه ثوب .
وعن nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب أنه قال لعائشة : ما يمنعك أن تتخذي لحافا من الفراء ؟ قالت : كرهت أن ألبس الميتة .
وروى عبد الرازق بإسناده عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود أنه قال لمن نزل من المسلمين بفارس : إذا اشتريتم لحما فسلوا ، إن كان ذبيحة يهودي أو نصراني ، فكلوا . وهذا لأن الغالب على أهل فارس المجوس ذبائحهم محرمة .
وقوله في الأشياء التي سكت عنها : رحمة من غير نسيان يعني أنه إنما سكت عن ذكرها رحمة بعباده ، ورفقا ، حيث لم يحرمها عليهم حتى يعاقبهم على فعلها ، ولم يوجبها عليهم حتى يعاقبهم على تركها ، بل جعلها عفوا ، فإن فعلوها ، فلا حرج عليهم ، وإن تركوها فكذلك ، وفي حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء : ثم تلا : وما كان ربك نسيا [ مريم : 64 ] ومثل قوله عز وجل : لا يضل ربي ولا ينسى [ طه : 52 ] .
وقوله : فلا تبحثوا عنها يحتمل اختصاص هذا النهي بزمن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كثرة البحث والسؤال عما لم يذكر قد يكون سببا لنزول التشديد فيه بإيجاب أو تحريم ، وحديث nindex.php?page=showalam&ids=37سعد بن أبي وقاص يدل على هذا ، فيحتمل أن يكون النهي عاما ، والمروي عن سلمان من قوله يدل على ذلك ، فإن كثرة البحث والسؤال عن حكم ما لم يذكر في الواجبات ولا في المحرمات ، قد يوجب اعتقاد تحريمه ، أو إيجابه ، لمشابهته لبعض الواجبات أو المحرمات ، فقبول العافية فيه ، وترك البحث عنه والسؤال خير ، وقد يدخل ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=951134هلك [ ص: 171 ] المتنطعون ، قالها ثلاثا . خرجه مسلم من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود مرفوعا ، والمتنطع : هو المتعمق البحاث عما لا يعنيه ، وهذا قد يتمسك به من يتعلق بظاهر اللفظ ، وينفي المعاني والقياس كالظاهرية .
والتحقيق في هذا المقام - والله أعلم - أن البحث عما لم يوجد فيه نص خاص أو عام على قسمين : أحدهما : أن يبحث عن دخوله في دلالات النصوص الصحيحة من الفحوى والمفهوم والقياس الظاهر الصحيح ، فهذا حق ، وهو مما يتعين فعله على المجتهدين في معرفة الأحكام الشرعية .
والثاني : أن يدقق الناظر نظره وفكره في وجوه الفروق المستبعدة ، فيفرق بين متماثلين بمجرد فرق لا يظهر له أثر في الشرع ، مع وجود الأوصاف المقتضية للجمع ، أو يجمع بين متفرقين بمجرد الأوصاف الطردية التي هي غير مناسبة ، ولا يدل دليل على تأثيرها في الشرع ، فهذا النظر والبحث غير مرضي ولا محمود ، مع أنه قد وقع فيه طوائف من الفقهاء ، وإنما المحمود النظر الموافق لنظر الصحابة ومن بعدهم من القرون المفضلة nindex.php?page=showalam&ids=11كابن عباس ونحوه ، ولعل هذا مراد nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود بقوله : إياكم والتنطع ، إياكم والتعمق ، وعليكم بالعتيق ، يعني ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم .
ومن كلام بعض أئمة الشافعية : لا يليق بنا أن نكتفي بالخيالات في الفروق ، كدأب أصحاب الرأي ، والسر في تلك أن متعلق الأحكام في الحال الظنون وغلباتها ، فإذا كان اجتماع مسألتين أظهر في الظن من افتراقهما ، وجب القضاء باجتماعهما ، وإن انقدح فرق على بعد ، فافهموا ذلك فإنه من قواعد الدين . انتهى .
[ ص: 172 ] ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه أمور الغيب الخبرية التي أمر بالإيمان بها ، ولم يبين كيفيتها ، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا العالم المحسوس ، فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني ، وهو مما ينهى عنه ، وقد يوجب الحيرة والشك ، ويرتقي إلى التكذيب .
قال nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق بن راهويه : لا يجوز التفكر في الخالق ، ويجوز للعباد أن يتفكروا في المخلوقين بما سمعوا فيهم ، ولا يزيدون على ذلك ، لأنهم إن فعلوا تاهوا ، قال : وقد قال الله : وإن من شيء إلا يسبح بحمده [ الإسراء : 44 ] ، فلا يجوز أن يقال : كيف تسبح القصاع ، والأخونة ، والخبز المخبوز ، والثياب المنسوجة ؟ وكل هذا قد صح العلم فيهم أنهم يسبحون ، فذلك إلى الله أن يجعل تسبيحهم كيف شاء وكما شاء ، وليس للناس أن يخوضوا في ذلك إلا [ ص: 173 ] بما علموا ، ولا يتكلموا في هذا وشبهه إلا بما أخبر الله ، ولا يزيدوا على ذلك ، فاتقوا الله ، ولا تخوضوا في هذه الأشياء المتشابهة ، فإنه يرديكم الخوض فيه عن سنن الحق . نقل ذلك كله حرب عن إسحاق رحمه الله .