صفحة جزء
[ ص: 510 ] الحديث الخمسون . عن عبد الله بن بسر قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، فقال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا ، فباب نتمسك به جامع ؟ قال : لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ .
وخرجه الترمذي ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " بمعناه ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وكلهم خرجه من رواية عمرو بن قيس الكندي ، عن عبد الله بن بسر . وخرج ابن حبان في " صحيحه " وغيره من حديث معاذ بن جبل ، قال : آخر ما فارقت عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قلت له : أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ؟ قال : أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل . وقد سبق في هذا الكتاب مفرقا ذكر كثير من فضائل الذكر ، ونذكر هاهنا فضل إدامته والإكثار منه . قد أمر الله سبحانه المؤمنين بأن يذكروه ذكرا كثيرا ، ومدح من ذكره كذلك ؛ [ ص: 511 ] قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 41 ] ، وقال تعالى : واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الأنفال : 45 ] ، وقال تعالى : والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما [ الأحزاب : 35 ] ، وقال تعالى : الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران : 191 ] . وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على جبل يقال له : جمدان ، فقال : سيروا هذا جمدان ، قد سبق المفردون قالوا : ومن المفردون يا رسول الله ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا والذاكرات . وخرجه الإمام أحمد ، ولفظه : سبق المفردون قالوا : وما المفردون ؟ قال : الذين يهترون في ذكر الله . وخرجه الترمذي ، وعنده : قالوا : يا رسول الله ، وما المفردون ؟ قال : المستهترون في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم ، فيأتون يوم القيامة خفافا . وروى موسى بن عبيدة عن أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسير بالدف من جمدان إذ استنبه ، فقال : يا معاذ أين السابقون ؟ فقلت : قد مضوا وتخلف أناس . فقال : يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله عز وجل خرجه جعفر الفريابي . [ ص: 512 ] ومن هذا السياق يظهر وجه ذكر السابقين في هذا الحديث ، فإنه لما سبق الركب ، وتخلف بعضهم ، نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن السابقين على الحقيقة هم الذين يدمنون ذكر الله ، ويولعون به ، فإن الاستهتار بالشيء : هو الولوع به والشغف ، حتى لا يكاد يفارق ذكره ، وهذا على رواية من رواه المستهترون ورواه بعضهم ، فقال فيه : الذين أهتروا في ذكر الله وفسر ابن قتيبة الهتر بالسقط في الكلام ، كما في الحديث : المستبان شيطانان يتكاذبان ويتهاتران . قال : والمراد من هذا الحديث من عمر وخرف في ذكر الله وطاعته ، قال : والمراد بالمفردين على هذه الرواية من انفرد بالعمر عن القرن الذي كان فيه ، وأما على الرواية الأولى فالمراد بالمفردين المتخلين من الناس بذكر الله تعالى ، كذا قال ، ويحتمل - وهو الأظهر - أن المراد بالانفراد على الروايتين الانفراد بهذا العمل وهو كثرة الذكر دون الانفراد الحسي ، إما عن القرن أو عن المخالطة ، والله أعلم . ومن هذا المعنى قول عمر بن عبد العزيز ليلة عرفة بعرفة عند قرب الإفاضة : ليس السابق اليوم من سبق بعيره ، وإنما السابق من غفر له . وبهذا الإسناد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : من أحب أن يرتع في رياض الجنة ، فليكثر ذكر الله عز وجل . [ ص: 513 ] وخرج الإمام أحمد والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : استكثروا من الباقيات الصاحات قيل : وما هن يا رسول الله ؟ قال : التكبير والتسبيح والتهليل والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن أبي سعيد الخدري أيضا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : أكثروا ذكر الله حتى يقولوا : مجنون . وروى أبو نعيم في " الحلية " من حديث ابن عباس مرفوعا : اذكروا الله ذكرا يقول المنافقون : إنكم تراءون . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل : أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة ؟ قال : الذاكرون الله كثيرا ، وقيل : يا رسول الله ، ومن الغازي في سبيل الله ؟ قال : لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويتخضب دما ، لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة . [ ص: 514 ] وخرج الإمام أحمد من حديث سهل بن معاذ ، [ عن أبيه ] ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا سأله فقال : أي الجهاد أعظم أجرا يا رسول الله ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، قال : فأي الصائمين أعظم ؟ قال : أكثرهم لله ذكرا ، ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : أكثرهم لله ذكرا : ، فقال أبو بكر : يا أبا حفص ، ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أجل . وقد خرجه ابن المبارك ، وابن أبي الدنيا من وجوه مرسلة بمعناه . وفي " صحيح مسلم " عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه . وقال أبو الدرداء : الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله ، يدخل أحدهما الجنة وهو يضحك ، وقيل له : إن رجلا أعتق مائة نسمة ، فقال : إن مائة نسمة من مال رجل كثير ، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار ، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل . وقال معاذ : لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل أحب إلي من أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله من بكرة إلى الليل . [ ص: 515 ] وقال ابن مسعود في قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ آل عمران : 102 ] قال : أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ، والمشهور وقفه . وقال زيد بن أسلم : قال موسى عليه السلام : يا رب ، قد أنعمت علي كثيرا ، فدلني على أن أشكرك كثيرا ، قال : اذكرني كثيرا ، فإن ذكرتني كثيرا ، فقد شكرتني ، وإذا نسيتني فقد كفرتني . وقال الحسن : أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكرا وأتقاهم قلبا . وقال أحمد بن أبي الحواري : حدثني أبو المخارق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مررت ليلة أسري بي برجل مغيب في نور العرش ، فقلت : من هذا ؟ ملك ؟ قيل : لا ، قلت : نبي ؟ قيل : لا ، قلت : من هو ؟ قال : هذا رجل كان لسانه رطبا من ذكر الله ، وقلبه معلق بالمساجد ، ولم يستسب والديه قط . وقال ابن مسعود : قال موسى عليه السلام : رب أي الأعمال أحب إليك أن أعمل به ؟ قال : تذكرني فلا تنساني . وقال أبو إسحاق بن ميثم : بلغني أن موسى عليه السلام ، قال : رب أي عبادك أحب إليك ؟ قال : أكثرهم لي ذكرا . وقال كعب : من أكثر ذكر الله ، برئ من النفاق ، ورواه مؤمل ، عن حماد بن سلمة ، عن سهيل ، عن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا [ ص: 516 ] وخرج الطبراني بهذا الإسناد مرفوعا : من لم يكثر ذكر الله فقد برئ من الإيمان . ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى وصف المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلا ، فمن أكثر ذكر الله ، فقد باينهم في أوصافهم ، ولهذا ختمت سورة المنافقين بالأمر بذكر الله ، وأن لا يلهي المؤمن عن ذلك مال ولا ولد ، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله ، فهو من الخاسرين . قال الربيع بن أنس ، عن بعض أصحابه : علامة حب الله كثرة ذكره ، فإنك لن تحب شيئا إلا أكثرت ذكره . وقال فتح الموصلي : المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين ، قال ذو النون : من اشتغل قلبه ولسانه بالذكر ، قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه . قال إبراهيم بن الجنيد : كان يقال : من علامة المحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان ، وقلما ولع المرء بذكر الله عز وجل إلا أفاد منه حب الله . وكان بعض السلف يقول في مناجاته : إذا سئم البطالون من بطالتهم ، فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك . قال أبو جعفر المحولي : ولي الله المحب لله لا يخلو قلبه من ذكر ربه ، ولا يسأم من خدمته . وقد ذكرنا قول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه ، والمعنى : في حال قيامه ومشيه وقعوده واضطجاعه ، وسواء كان على [ ص: 517 ] طهارة أو على حدث . وقال مسعر : كانت دواب البحر في البحر تسكن ، ويوسف عليه السلام في السجن لا يسكن عن ذكر الله عز وجل . وكان لأبي هريرة خيط فيه ألف عقدة ، فلا ينام حتى يسبح به . وكان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن ، فلما مات وضع على سريره ليغسل ، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح . وقيل لعمير بن هانئ : ما نرى لسانك يفتر ، فكم تسبح كل يوم ؟ قال مائة ألف تسبيحة ، إلا أن تخطئ الأصابع ، يعني أنه يعد ذلك بأصابعه . وقال عبد العزيز بن أبي رواد : كانت عندنا امرأة بمكة تسبح كل يوم اثني عشرة ألف تسبيحة ، فماتت فلما بلغت القبر ، اختلست من أيدي الرجال . وكان الحسن البصري كثيرا ما يقول إذا لم يحدث ، ولم يكن له شغل : سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال : إن صاحبكم لفقيه ، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة . وكان عامة كلام ابن سيرين : سبحان الله العظيم ، سبحان الله وبحمده . كان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون ، نزل إلى البحر ، وقام [ ص: 518 ] في الماء يذكر الله مع دواب البحر . نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم قال : فكنت كلما استيقظت من الليل ، وجدته يذكر الله ، فأغتم ، ثم أعزي نفسي بهذه الآية : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ المائدة : 54 ] . المحب اسم محبوبه لا يغيب عن قلبه ، فلو كلف أن ينسى تذكره لما قدر ، ولو كلف أن يكف عن ذكره بلسانه لما صبر .

كيف ينسى المحب ذكر حبيب اسمه في فؤاده مكتوب

كان بلال كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول : أحد أحد ، فإذا قالوا له : قل : واللات والعزى ، قال : لا أحسنه .

يراد من القلب نسيانكم     وتأبى الطباع على الناقل

كلما قويت المعرفة ، صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة ، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه : الله الله ، ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح ، كما يلهمون النفس ، وتصير " لا إله إلا الله " لهم ، كالماء البارد لأهل الدنيا ، كان الثوري ينشد :

لا لأني أنساك أكثر ذكرا     ك ولكن بذاك يجري لساني

إذا سمع المحب ذكر اسم حبيبه من غيره زاد طربه ، وتضاعف قلقه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن مسعود : اقرأ علي القرآن ، قال : أقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : إني أحب أن أسمعه من غيري ، فقرأ عليه ، ففاضت عيناه . [ ص: 519 ] سمع الشبلي قائلا يقول : يا ألله يا جواد ، فاضطرب :

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى     فهيج أشواق الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما     أطار بليلى طائرا كان في صدري

النبض ينزعج عند ذكر المحبوب :

إذا ذكر المحبوب عند حبيبه     ترنح نشوان وحن طروب

ذكر المحبين على خلاف ذكر الغافلين : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم [ الأنفال : 2 ] .

وإني لتعروني لذكراك هزة     كما انتفض العصفور بلله القطر

أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه . قال أبو الجلد : أوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام : إذا ذكرتني ، فاذكرني ، وأنت تنتفض أعضاؤك ، وكن عند ذكري خاشعا مطمئنا ، وإذا ذكرتني ، فاجعل لسانك من وراء قلبك . وصف علي يوما الصحابة ، فقال : كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في اليوم الشديد الريح ، وجرت دموعهم على ثيابهم . قال زهير البابي : إن لله عبادا ذكروه ، فخرجت نفوسهم إعظاما واشتياقا ، وقوم ذكروه ، فوجلت قلوبهم فرقا وهيبة ، فلو حرقوا بالنار ، لم يجدوا مس النار ، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده فارفضوا عرقا من خوفه ، وقوم ذكروه ، فحالت ألوانهم غبرا ، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهرا . [ ص: 520 ] صلى أبو يزيد الظهر ، فلما أراد أن يكبر ، لم يقدر إجلالا لاسم الله ، وارتعدت فرائصه حتى سمعت قعقعة عظامه . كان أبو حفص النيسابوري إذا ذكر الله تغيرت عليه حاله حتى يرى جميع ذلك من عنده ، وكان يقول : ما أظن محقا يذكر الله عن غير غفلة ، ثم يبقى حيا إلا الأنبياء ، فإنهم أيدوا بقوة النبوة وخواص الأولياء بقوة ولايتهم .

إذا سمعت باسم الحبيب تقعقعت     مفاصلها من هول ما تتذكر

وقف أبو زيد ليلة إلى الصباح يجتهد أن يقول : لا إله إلا الله ، فما قدر إجلالا وهيبة ، فلما كان عند الصباح نزل ، فبال الدم .

وما ذكرتكم إلا نسيتكم     نسيان إجلال لا نسيان إهمال
إذا تذكرت من أنتم وكيف أنا     أجللت مثلكم يخطر على بالي

الذكر لذة قلوب العارفين . قال الله عز وجل : الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] . قال مالك بن دينار : ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل . وفي بعض الكتب السالفة : يقول الله عز وجل : معشر الصديقين بي فافرحوا ، وبذكري فتنعموا . وفي أثر آخر سبق ذكره : وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها . وعن ابن عمر قال : أخبرني أهل الكتاب أن هذه الأمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها ، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمئها . قلوب المحبين لا تطمئن إلا بذكره ، وأرواح المشتاقين لا تسكن إلا برؤيته ، [ ص: 521 ] قال ذو النون : ما طابت الدنيا إلا بذكره ، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه ، ولا طابت الجنة إلا برؤيته .

أبدا نفوس الطالبيـ     ــن إلى طلولكم تحن
وكذا القلوب بذكركم     بعد المخافة تطمئن
جنت بحبكم ومن     يهوى الحبيب ولا يجن
بحياتكم يا سادتي     جودوا بوصلكم ومنوا

قد سبق حديث : اذكروا الله حتى يقولوا : مجنون ولبعضهم :

لقد أكثرت من ذكرا     ك حتى قيل وسواس

كان أبو مسلم الخولاني كثير الذكر ، فرآه بعض الناس فأنكر حاله ، فقال لأصحابه : أمجنون صاحبكم ؟ فسمعه أبو مسلم ، فقال لا يا أخي ، ولكن هذا دواء الجنون .

وحرمة الود ما لي عنكم عوض     وليس لي في سواكم سادتي غرض
وقد شرطت على قوم صحبتهم     بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا
ومن حديثي بكم قالوا : به مرض     فقلت : لا زال عني ذلك المرض

المحبون يستوحشون من كل شاغل يشغل عن الذكر ، فلا شيء أحب إليهم من الخلوة بحبيبهم . قال عيسى عليه السلام : يا معشر الحواريين كلموا الله كثيرا ، وكلموا الناس قليلا ، قالوا : كيف نكلم الله كثيرا ؟ قال : اخلوا بمناجاته ، اخلوا بدعائه . وكان بعض السلف يصلي كل يوم ألف ركعة حتى أقعد من رجليه ، فكان [ ص: 522 ] يصلي جالسا ألف ركعة ، فإذا صلى العصر احتبى واستقبل القبلة ، ويقول : عجبت للخليقة كيف أنست بسواك ، بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك . وكان بعضهم يصوم الدهر ، فإذا كان وقت الفطور ، قال : أحس نفسي تخرج لاشتغالي عن الذكر بالأكل . قيل لمحمد بن النضر : أما تستوحش وحدك ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : أنا جليس من ذكرني .

كتمت اسم الحبيب من العباد     ورددت الصبابة في فؤادي
فواشوقا إلى بلد خلي     لعلي باسم من أهوى أنادي

فإذا قوي حال المحب ومعرفته ، لم يشغله عن الذكر بالقلب واللسان شاغل ، فهو بين الخلق بجسمه ، وقلبه معلق بالمحل الأعلى ، كما قال علي رضي الله عنه في وصفهم : صحبوا الدنيا بأجساد أوراحها معلقة بالمحل الأعلى ، وفي هذا المعنى قيل :

جسمي معي غير أن الروح عندكم     فالجسم في غربة والروح في وطن

وقال غيره :

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي     وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس     وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وهذه كانت حال الرسل والصديقين ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [ الأنفال : 45 ] . [ ص: 523 ] وفي " الترمذي " مرفوعا : يقول الله عز وجل : إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه . وقال تعالى : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم [ النساء : 103 ] يعني الصلاة في حال الخوف ، ولهذا قال : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ النساء : 103 ] ، وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون [ الجمعة : 10 ] ، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله ، وكثرة ذكره . ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق ومواطن الغفلة كما في " المسند " و " الترمذي " ، و " سنن ابن ماجه " عن عمر مرفوعا : من دخل سوقا يصاح فيها ويباع ، فقال : لا إله إلا وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ، ومحا عنه ألف ألف سيئة ، ورفع له ألف ألف درجة . وفي حديث آخر : ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين ، وذاكر الله في الغافلين كمثل شجرة خضراء في وسط شجر يابس . [ ص: 524 ] قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود : ما دام قلب الرجل يذكر الله ، فهو في صلاة ، وإن كان في السوق وإن حرك به شفتيه فهو أفضل . وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة . والتقى رجلان منهم في السوق ، فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس ، فخلوا في موضع ، فذكرا الله ، ثم تفرقا ، ثم مات أحدهما ، فلقيه الآخر في منامه ، فقال له : أشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق ؟ فصل في وظائف الذكر الموظفة في اليوم والليلة . معلوم أن الله عز وجل فرض على المسلمين أن يذكروه كل يوم وليلة خمس مرات ، بإقامة الصلوات الخمس في مواقيتها المؤقتة ، وشرع لهم مع هذه الفرائض الخمس أن يذكروه ذكرا يكون لهم نافلة ، والنافلة : الزيادة ، فيكون ذلك زيادة على الصلوات الخمس ، وهي نوعان : أحدهما : ما هو من جنس الصلاة ، فشرع لهم أن يصلوا مع الصلوات الخمس قبلها ، أو بعدها أو قبلها وبعدها سننا ، فتكون زيادة على الفريضة ، فإن كان في الفريضة نقص ، جبر نقصها بهذه النوافل ، وإلا كانت النوافل زيادة على الفرائض . وأطول ما يتخلل بين مواقيت الصلاة مما ليس فيه صلاة مفروضة ما بين [ ص: 525 ] صلاة العشاء وصلاة الفجر ، وما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر ، فشرع كل واحدة من هاتين الصلاتين صلاة تكون نافلة ؛ لئلا يطول وقت الغفلة عن الذكر ، فشرع ما بين صلاة العشاء ، وصلاة الفجر صلاة الوتر وقيام الليل ، وشرع ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر صلاة الضحى . وبعض هذه الصلوات آكد من بعض فآكدها الوتر ، ولذلك اختلف العلماء في وجوبه ، ثم قيام الليل ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه حضرا وسفرا ، ثم صلاة الضحى ، وقد اختلف الناس فيها ، وفي استحباب المداومة عليها ، وفي الترغيب فيها أحاديث صحيحة ، وورد الترغيب أيضا في الصلاة عقيب زوال الشمس . وأما الذكر باللسان ، فمشروع في جميع الأوقات ، ويتأكد في بعضها . فمما يتأكد فيه الذكر عقيب الصلوات المفروضات ، وأن يذكر الله عقيب كل صلاة منها مائة مرة ما بين تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل . ويستحب - أيضا - الذكر بعد الصلاتين اللتين لا تطوع بعدهما ، وهما : الفجر والعصر ، فيشرع الذكر بعد صلاة الفجر إلى أن تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى تغرب الشمس ، وهذان الوقتان - أعني وقت الفجر ووقت العصر - هما أفضل أوقات النهار للذكر ، ولهذا أمر الله تعالى بذكره فيهما في مواضع من القرآن كقوله : وسبحوه بكرة وأصيلا [ الأحزاب : 42 ] ، وقوله : واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا [ الإنسان : 25 ] ، وقوله : وسبح بالعشي والإبكار [ آل عمران : 41 ] ، وقوله : فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا [ مريم : 11 ] ، وقوله : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون [ الروم : 17 ] ، وقوله : واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار [ غافر : 55 ] ، وقوله : واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين [ الأعراف : 205 ] ، وقوله : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها [ طه : 130 ] ، وقوله : وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب [ ق : 39 ] . [ ص: 526 ] وأفضل ما فعل في هذين الوقتين من الذكر : صلاة الفجر وصلاة العصر ، وهما أفضل الصلوات . وقد قيل في كل منهما : إنها الصلاة الوسطى وهما البردان اللذان من حافظ عليهما دخل الجنة ، ويليهما من أوقات الذكر الليل . ولهذا يذكر بعد هذين الوقتين في القرآن تسبيح الليل وصلاته . والذكر المطلق يدخل فيه الصلاة ، وتلاوة القرآن ، وتعلمه ، وتعليمه ، والعلم النافع ، كما يدخل فيه التسبيح والتكبير والتهليل ، ومن أصحابنا من رجح التلاوة على التسبيح ونحوه بعد الفجر والعصر . وسئل الأوزاعي عن ذلك ، فقال : كان هديهم ذكر الله ، فإن قرأ فحسن . وظاهر هذا أن الذكر في هذا الوقت أفضل من التلاوة ، وكذا قال إسحاق في التسبيح عقيب المكتوبات مائة مرة : إنه أفضل من التلاوة حينئذ . والأذكار والأدعية المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصباح والمساء كثيرة جدا . ويستحب أيضا إحياء ما بين العشاءين بالصلاة والذكر ، وقد تقدم حديث أنس أنه نزل في ذلك قوله تعالى : تتجافى جنوبهم عن المضاجع [ السجدة : 16 ] . ويستحب تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة - وهو مذهب الإمام أحمد وغيره - حتى يفعل هذه الصلاة في أفضل وقتها ، وهو آخره ، ويشتغل منتظر هذه الصلاة في الجماعة في هذا الثلث الأول من الليل بالصلاة ، أو بالذكر وانتظار الصلاة في المسجد ، ثم إذا صلى العشاء ، وصلى بعدها ما يتبعها من سننها الراتبة ، أو أوتر بعد ذلك إن كان يريد أن يوتر قبل النوم . [ ص: 527 ] فإذا أوى إلى فراشه بعد ذلك للنوم ، فإنه يستحب له أن لا ينام إلا على طهارة وذكر ، فيسبح ويحمد ويكبر تمام مائة ، كما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - فاطمة وعليا أن يفعلاه عند منامهما ويأتي بما قدر عليه من الأذكار الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند النوم ، وهي أنواع متعددة من تلاوة القرآن وذكر الله ، ثم ينام على ذلك . فإذا استيقظ من الليل ، وتقلب على فراشه ، فليذكر الله كلما تقلب ، ففي " صحيح البخاري " عن عبادة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من تعار من الليل ، فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : رب اغفر لي - أو قال : " ثم دعا - استجيب له ، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته . وفي " الترمذي " عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أوى إلى فراشه طاهرا يذكر الله حتى يدركه النعاس ، لم تمض ساعة من الليل يسأل الله فيها شيئا من خير الدنيا والآخرة ، إلا أعطاه إياه . وخرج أبو داود معناه من حديث معاذ ، وخرجه النسائي من حديث [ ص: 528 ] عمرو بن عبسة . وللإمام أحمد من حديث عمرو بن عبسة في هذا الحديث : وكان أول ما يقول إذا استيقظ : سبحانك لا إله إلا أنت فاغفر لي ، إلا انسلخ من خطاياه كما تنسلخ الحية من جلدها . وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ من منامه يقول : الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور . ثم إذا قام إلى الوضوء والتهجد ، أتى بذلك كله على ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويختم تهجده بالاستغفار في السحر ، كما مدح الله المستغفرين بالأسحار ، وإذا طلع الفجر ، صلى ركعتي الفجر ، ثم صلى الفجر ، واشتغل بعد صلاة الفجر بالذكر المأثور إلى أن تطلع الشمس على ما تقدم ذكره ، فمن كان حاله على ما ذكرنا ، لم يزل لسانه رطبا بذكر الله ، فيستصحب الذكر في يقظته حتى ينام عليه ، ثم يبدأ به عند استيقاظه ، وذلك من دلائل صدق المحبة ، كما قال بعضهم : وآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت وقت هبوبي وأما ما يفعله الإنسان في آناء الليل والنهار من مصالح دينه ودنياه فعامة ذلك يشرع ذكر اسم الله عليه ، فيشرع له ذكر اسم الله وحمده على أكله وشربه ولباسه وجماعه لأهله ودخول منزله ، وخروجه منه ، ودخوله الخلاء ، وخروجه [ ص: 529 ] منه ، وركوبه دابته ، ويسمي على ما يذبحه من نسك وغيره . ويشرع له حمد الله على عطاسه ، وعند رؤية أهل البلاء في الدين أو الدنيا ، وعند التقاء الإخوان ، وسؤال بعضهم بعضا عن حاله ، وعند تجدد ما يحبه الإنسان من النعم ، واندفاع ما يكرهه من النقم ، وأكمل من ذلك أن يحمد الله على السراء والضراء والشدة والرخاء ، ويحمده على كل حال . ويشرع له دعاء الله تعالى عند دخول السوق ، وعند سماع أصوات الديكة بالليل ، وعند سماع الرعد ، وعند نزول المطر ، وعند اشتداد هبوب الرياح ، وعند رؤية الأهلة ، وعند رؤية باكورة الثمار . ويشرع أيضا ذكر الله ودعاؤه عند نزول الكرب وحدوث المصائب الدنيوية ، وعند الخروج للسفر ، وعند نزول المنازل في السفر ، وعند الرجوع من السفر . ويشرع التعوذ بالله عند الغضب ، وعند رؤية ما يكره في منامه ، وعند سماع أصوات الكلاب والحمير بالليل . وتشرع استخارة الله عند العزم على ما لا يظهر الخيرة فيه . وتجب التوبة إلى الله والاستغفار من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم [ آل عمران : 135 ] ، فمن حافظ على ذلك ، لم يزل لسانه رطبا بذكر الله في كل أحواله . [ ص: 530 ] فصل قد ذكرنا في أول الكتاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث بجوامع الكلم ، فكان - صلى الله عليه وسلم - يعجبه جوامع الذكر ، ويختاره على غيره من الذكر ، كما في " صحيح مسلم " عن ابن عباس ، عن جويرية بنت الحارث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة ، فقال : ما زلت على الحال التي فارقتك عليها ؟ قالت : نعم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات ، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن : سبحان الله وبحمده عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته . وخرجه النسائي ، ولفظه : سبحان الله ، والحمد الله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر عدد خلقه ، ورضا نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته . وخرجه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على امرأة وبين يديها نوى ، أو قال : حصى تسبح به ، فقال : ألا أخبرك بما هو أيسر من هذا وأفضل ؟ سبحان الله عدد ما خلق في السماء ، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض ، وسبحان الله عدد ما بين ذلك ، وسبحان الله عدد ما هو خالق ، والله أكبر مثل ذلك ، والحمد لله مثل ذلك ، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك . [ ص: 531 ] وخرج الترمذي من حديث صفية ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها فقالت سبحت بهذه ، فقال : ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به ؟ فقلت : علمني ، فقال : قولي : سبحان الله عدد خلقه . وخرج النسائي ، وابن حبان في " صحيحه " من حديث أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر به وهو يحرك شفتيه ، فقال : ماذا تقول يا أبا أمامة ؟ قال : أذكر ربي ، قال : ألا أخبرك بأكثر وأفضل من ذكرك الليل مع النهار والنهار مع الليل ؟ أن تقول : سبحان الله عدد ما خلق ، سبحان الله ملء ما خلق ، سبحان الله عدد ما في الأرض والسماء ، وسبحان الله ملء ما في الأرض والسماء ، وسبحان الله عدد ما أحصى كتابه ، وسبحان الله ملء ما أحصى كتابه ، وسبحان الله عدد كل شيء ، وسبحان الله ملء كل شيء ، وتقول : الحمد لله مثل ذلك . [ ص: 532 ] وخرج البزار نحوه من حديث أبي الدرداء . وخرج ابن أبي الدنيا بإسناد له أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ : يا معاذ ، كم تذكر ربك كل يوم ؟ تذكره كل يوم عشرة آلاف مرة ؟ قال : كل ذلك أفعل ، قال : أفلا أدلك على كلمات هن أهون عليك من عشرة آلاف وعشرة آلاف أن تقول : لا إله إلا الله عدد ما أحصاه علمه لا إله إلا الله عدد كلماته ، لا إله إلا الله عدد خلقه ، لا إله إلا الله زنة عرشه ، لا إله إلا الله ملء سماواته ، لا إله إلا الله ملء أرضه ، لا إله إلا الله مثل ذلك معه ، والله أكبر مثل ذلك معه ، والحمد لله مثل ذلك معه . وبإسناده أن ابن مسعود ذكر له امرأة تسبح بخيوط معقدة ، فقال : ألا أدلك على ما هو خير لك منه ؟ سبحان الله ملء البر والبحر ، سبحان الله ملء السماوات والأرض ، سبحان الله عدد خلقه ، ورضا نفسه ، فإذا أنت قد ملأت البر والبحر والسماء والأرض . وبإسناده عن المعتمر بن سليمان التيمي قال : كان أبي يحدث خمسة أحاديث ثم يقول : أمهلوا ، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله عدد ما خلق وعدد ما هو خالق ، وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق ، وملء ما خلق وملء ما هو خالق ، وملء سماواته ، وملء أرضه ، ومثل ذلك وأضعاف ذلك ، وعدد خلقه ، وزنة عرشه ، ومنتهى رحمته ، ومداد كلماته ، ومبلغ رضاه وحتى يرضى وإذا رضي ، وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى ، وعدد ما هم ذاكروه فيما بقي ، في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من [ ص: 533 ] الساعات ، وتنسم وتنفس من أبد إلى الأبد أبد الدنيا والآخرة أمد من ذلك لا ينقطع أولاه ، ولا ينفد أخراه . وبإسناده عن المعتمر بن سليمان قال : رأيت عبد الملك بن خالد بعد موته ، فقلت : ما صنعت ؟ قال : خيرا ، فقلت : ترجو للخاطئ شيئا ؟ قال : يلتمس علم تسبيحات أبي المعتمر نعم الشيء . قال ابن أبي الدنيا : وحدثني محمد بن أبي الحسين ، حدثني بعض البصريين أن يونس بن عبيد رآه رجلا فيما يرى النائم كان قد أصيب ببلاد الروم ، فقال : ما أفضل ما رأيت ثم من الأعمال ؟ قال : رأيت تسبيحات أبي المعتمر من الله بمكان . وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه من الدعاء جوامعه ، ففي " سنن أبي داود " عند عائشة ، قالت : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه الجوامع من الدعاء ، ويدع ما بين ذلك . وخرج الفريابي وغيره من حديث عائشة أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : يا عائشة ، عليك بجوامع الدعاء : اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم ، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ، ما علمت منه وما لم أعلم . اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه محمد عبدك ونبيك ، وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبدك ونبيك ، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، وأعوذ بك من النار ، وما قرب إليها من قول وعمل ، وأسألك ما قضيت لي من قضاء ، أن تجعل عاقبته رشدا وخرجه الإمام أحمد ، وابن ماجه ، وابن حبان في " صحيحه " والحاكم ، وليس عندهم ذكر جوامع الدعاء ، وعند [ ص: 534 ] الحاكم عليك بالكوامل وذكره . وخرجه أبو بكر الأثرم وعنده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها : ما منعك أن تأخذي بجوامع الكلم وفواتحه ؟ وذكر هذا الدعاء . وخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا ، فقلنا : يا رسول الله ، دعوت بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئا ، فقال : ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كله ؟ تقولون : اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد ، ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه نبيك محمد ، وأنت المستعان ، وعليك البلاغ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . وخرجه الطبراني وغيره من حديث أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعاء له طويل : اللهم إني أسألك فواتح الخير ، وخواتمه ، وجوامعه ، وأوله وآخره ، وظاهره ، وباطنه وفي " المسند " أن سعد بن أبي وقاص سمع ابنا له يدعو ، ويقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها ، فقال : لقد سألت الله خيرا كثيرا ، وتعوذت بالله من شر كثير ، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، وقرأ هذه الآية : ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين [ الأعراف : 55 ] وإن بحسبك أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، [ ص: 535 ] وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل . وفي " الصحيحين " عن ابن مسعود ، قال : كنا نقول في الصلاة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : السلام على الله ، السلام على جبريل وميكائيل ، السلام على فلان وفلان ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم : إن الله هو السلام ، فإذا قعد أحدكم في الصلاة ، فليقل : التحيات لله والصلوات والطيبات ، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإذا قالها أصابت كل عبد لله صالح في السماء والأرض ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ثم ليتخير من المسألة ما شاء . وفي " المسند " عن ابن مسعود قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علم فواتح الخير وجوامعه ، أو جوامع الخير وفواتحه وخواتمه ، وإن كنا لا ندري ما نقول في صلاتنا حتى علمنا ، فقال : قولوا : التحيات لله فذكره إلى آخره ، والله أعلم . آخر الكتاب والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل .

التالي السابق


الخدمات العلمية