فأما من ارتكب الصغائر ، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلية ، بل هو مؤمن ناقص الإيمان ، ينقص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك .
والقول بأن مرتكب الكبائر يقال له : مؤمن ناقص الإيمان مروي عن nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله ، وهو قول nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك وإسحاق وأبي عبيد وغيرهم ، والقول بأنه مسلم ، ليس بمؤمن مروي عن أبي جعفر محمد بن علي ، وذكر بعضهم أنه المختار عند أهل السنة .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : الزاني ينزع منه نور الإيمان . وقال nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة : ينزع منه الإيمان ، فيكون فوقه كالظلة ، فإن تاب عاد إليه .
وقال nindex.php?page=showalam&ids=82عبد الله بن رواحة وأبو الدرداء : الإيمان كالقميص ، يلبسه الإنسان تارة ، ويخلعه تارة أخرى ، وكذا قال nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله وغيره ، والمعنى : أنه إذا كمل خصال الإيمان ، لبسه ، فإذا نقص منها شيء نزعه ، وكل هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التام الذي لا ينقص من واجباته شيء .
وخرج nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد من حديث معاذ أنه nindex.php?page=hadith&LINKID=950410سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الإيمان ، قال : أفضل الإيمان أن تحب لله وتبغض لله ، وتعمل لسانك في ذكر الله ، قال : وماذا يا رسول الله ؟ قال : أن تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ما تكره لنفسك ، وأن تقول خيرا أو تصمت .
[ ص: 305 ] وإنما نهاه عن ذلك ، لما رأى من ضعفه ، وهو صلى الله عليه وسلم يحب هذا لكل ضعيف ، وإنما كان يتولى أمور الناس ، لأن الله قواه على ذلك ، وأمره بدعاء الخلق كلهم إلى طاعته ، وأن يتولى سياسة دينهم ودنياهم .
وحديث أنس الذي نتكلم الآن فيه يدل على أن المؤمن يسره ما يسر أخاه المؤمن ، ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير ، وهذا كله إنما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد ، فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير ، أو يساويه فيه ، لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله ، وينفرد بها عنهم ، والإيمان يقتضي خلاف ذلك ، وهو أن يشركه المؤمنون كلهم فيما أعطاه الله من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء .
وقد قيل : إن هذا محمول على أنه إذا أراد الفخر على غيره لا مجرد التجمل ، قال عكرمة وغيره من المفسرين في هذه الآية : العلو في الأرض : [ ص: 307 ] التكبر ، وطلب الشرف والمنزلة عند ذي سلطانها ، والفساد : العمل بالمعاصي .
وخرج أبو داود من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه ، وفي حديثه : " الكبر " بدل " البغي " .
فنفى أن يكون كراهته لأن يفوقه أحد في الجمال بغيا أو كبرا ، وفسر الكبر والبغي ببطر الحق ، وهو التكبر عليه ، والامتناع من قبوله كبرا إذا خالف هواه ، ومن هنا قال بعض السلف : التواضع أن تقبل الحق من كل من جاء به ، وإن كان صغيرا ، فمن قبل الحق ممن جاء به ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، وسواء كان يحبه أو لا يحبه ، فهو متواضع ، ومن أبى قبول الحق تعاظما عليه ، فهو متكبر .
وغمص الناس : هو احتقارهم وازدراؤهم ، وذلك يحصل من النظر إلى النفس بعين الكمال ، وإلى غيره بعين النقص .
[ ص: 308 ] وفي الجملة ، فينبغي للمؤمن أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ، ويكره لهم ما يكره لنفسه ، فإن رأى في أخيه المسلم نقصا في دينه ، اجتهد في إصلاحه .
قال بعض الصالحين من السلف : أهل المحبة لله نظروا بنور الله ، وعطفوا على أهل معاصي الله ، مقتوا أعمالهم ، وعطفوا عليهم ليزيلوهم بالمواعظ عن فعالهم ، وأشفقوا على أبدانهم من النار ، ولا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يرضى للناس ما يرضاه لنفسه ، وإن رأى في غيره فضيلة فاق بها عليه فتمنى لنفسه مثلها ، فإن كانت تلك الفضيلة دينية ، كان حسنا ، وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منزلة الشهادة .
ومع هذا كله ، فينبغي للمؤمن أن يحزن لفوات الفضائل الدينية ، ولهذا أمر أن ينظر في الدين إلى من فوقه ، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته ، كما قال تعالى : وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( المطففين : 26 ) ولا يكره أن أحدا يشاركه في ذلك ، بل يحب للناس كلهم المنافسة فيه ، ويحثهم على ذلك ، وهو من تمام أداء النصيحة للإخوان . كما قال الفضيل : إن كنت تحب أن يكون الناس مثلك ، فما أديت النصيحة لربك ، كيف وأنت تحب أن يكونوا دونك ؟ ! يشير إلى أن النصيحة لهم أن يحب أن يكونوا فوقه ، وهذه منزلة عالية ، ودرجة رفيعة في النصح ، وليس ذلك بواجب ، وإنما المأمور به في الشرع أن يحب أن يكونوا مثله ، ومع هذا ، فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية ، اجتهد على لحاقه ، وحزن على تقصير نفسه ، وتخلفه عن لحاق السابقين ، لا حسدا لهم على ما آتاهم الله ، بل منافسة لهم ، وغبطة وحزنا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين .
وينبغي للمؤمن أن لا يزال يرى نفسه مقصرا عن الدرجات العالية ، فيستفيد بذلك أمرين نفيسين : الاجتهاد في طلب الفضائل ، والازدياد منها ، والنظر إلى نفسه بعين النقص ، وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرا منه ، لأنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله ، كما أنه لا يرضى لنفسه بما هي عليه ، [ ص: 310 ] بل يجتهد في إصلاحها . وقد قال nindex.php?page=showalam&ids=17036محمد بن واسع لابنه : أما أبوك ، فلا كثر الله في المسلمين مثله .
فمن كان لا يرضى عن نفسه ، فكيف يحب للمسلمين أن يكونوا مثله مع نصحه لهم ؟ بل هو يحب للمسلمين أن يكونوا خيرا منه ، ويحب لنفسه أن يكون خيرا مما هو عليه .
وإن علم المرء أن الله قد خصه على غيره بفضل ، فأخبر به لمصلحة دينية ، وكان إخباره على سبيل التحدث بالنعم ، ويرى نفسه مقصرا في الشكر ، كان جائزا ، فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : ما أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني ، ولا يمنع هذا أن يحب للناس أن يشاركوه فيما خصه الله به ، فقد قال nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إني لأمر على الآية من كتاب الله ، فأود أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم . وقال nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ، ولم ينسب إلي منه شيء . وكان عتبة الغلام إذا أراد أن يفطر يقول لبعض إخوانه المطلعين على أمره وأعماله : أخرج إلي ماء أو تمرات أفطر عليها ؛ ليكون لك أجر مثل أجري .