كتابة الحديث وضبطه .
( 559 ) واختلف الصحاب والأتباع في كتبة الحديث والإجماع ( 560 ) على الجواز بعدهم بالجزم
لقوله اكتبوا ، وكتب السهمي
( كتابة الحديث وضبطه ) بالشكل ونحوه وما ألحق بذلك من الخط الدقيق والرمز والدارة ، مما سنبين أنها من تمام الضبط ومن آداب الكتابة ونحوها مما كان الأنسب تقديمه على الضبط .
[ حكم كتابة الحديث وأدلتها ] :
المسألة الأولى : ( واختلف الصحاب ) ; أي : الصحابة رضي الله عنهم - بكسر المهملة وفتحها - جمع صاحب كجياع وجائع ، ويقال : إن الكسر في صحاب والفتح في صحابة أكثر ، ( و ) كذا ( الأتباع ) للصحابة ( في كتبة ) بكسر الكاف ; أي : كتابة ( الحديث ) والعلم عملا وتركا .
فكرهها للتحريم - كما صرح به جماعة منهم
nindex.php?page=showalam&ids=13362ابن النفيس - غير واحد ; فمن الصحابة
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وابن [ ص: 32 ] مسعود nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت nindex.php?page=showalam&ids=110وأبو موسى الأشعري nindex.php?page=showalam&ids=44وأبو سعيد الخدري .
ومن التابعين
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي والنخعي ، بل أمروا بحفظه عنهم كما أخذوه حفظا متمسكين بما ثبت عن
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=929903لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن ، من كتب عني شيئا سوى القرآن فليمحه ) . وفي رواية أنه استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في كتب الحديث فلم يأذن له .
وأجازها بالقول أو بالفعل غير واحد من الفريقين ، فمن الصحابة
عمر [ ص: 33 ] وعلي وابنه
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=13وعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس وجابر nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، وكذا
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أيضا ، ومن التابعين
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز ، بل حكاه
عياض عن أكثر الفريقين .
وقال غير واحد منهما
[ ص: 34 ] كما صح : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=929904قيدوا العلم . بالكتاب ) بل روي رفعه ولا يصح .
وقال
أنس : ( كتب العلم فريضة ) .
( و ) لكن ( الإجماع ) منعقد من المسلمين كما حكاه
عياض ( على الجواز بعدهم ) ، أي : بعد الصحابة والتابعين في المائة الثانية كما زاده الذهبي ( بالجزم ) في حكايته بدون تردد بحيث زال ذلك الخلاف ، كما أجمع المتقدمون والمتأخرون على جوازها في القرآن لأدلة منتشرة يدل مجموعها على فضل تدوين العلم وتقييده .
كـ ( قوله ) صلى الله عليه وسلم وهو أصحها : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=929905اكتبوا لأبي شاه ) يعني بهاء منونة في الوقف والدرج على المعتمد ; أي : الخطبة التي سمعها يوم فتح
مكة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
لكن قال
البلقيني : إنه يجوز أن يدعى فيه أنها واقعة عين . وفيه نظر ، وكقوله صلى الله عليه وسلم مما لم يذكره
nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح في مرض موته : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=929906إيتوني [ ص: 35 ] بكتف أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ) .
( و ) لـ ( كتب )
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو بن العاص ( السهمي ) نسبة لسهم بن عمرو بن هصيص ، كما ثبت من قول
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=929907ما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا مني ، إلا ما كان من nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو ، فإنه كان يكتب ولا أكتب ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أذن له في ذلك ) . كما رواه
أبو داود .
وفي رواية أنه قال : يا رسول الله ، أكتب ما أسمعه منك في الغضب والرضا ؟ قال : ( نعم ، فإني لا أقول إلا حقا ) وكان رضي الله عنه يسمي صحيفته تلك الصادقة ، كما رواه
ابن سعد وغيره احترازا عن صحيفة كانت عنده من كتب أهل الكتاب ، بل روي كما في
الترمذي مما ضعفه عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة nindex.php?page=hadith&LINKID=929908أن رجلا شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم عدم الحفظ ، فقال له : ( استعن بيمينك ) . وروي عن
[ ص: 36 ] أنس أنه قال : (
هذه أحاديث سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبتها وعرضتها ) .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة نحوه ، وأسانيدها ضعيفة .
ولقول
علي الثابت في الصحيح ( ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة ) .
ولقول
قتادة إذ سأله بعض أصحابه : أأكتب ما أسمع ؟ وما يمنعك من ذلك وقد أنبأك اللطيف الخبير بأنه قد كتب ! وقرأ :
في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=11915أبو المليح الهذلي البصري : يعيبون علينا أن نكتب العلم أو ندونه وقد قال تعالى
علمها عند ربي في كتاب .
ولقوله تعالى مما استدل به
ابن فارس في مآخذ العلم : فاكتبوه حيث قال : فجعل كتابة الدين وأجله وكميته من القسط عنده ، وجعل ذلك قياما للشهادة ونفيا للارتياب لقوله :
ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا ، [ البقرة : 282 ] .
[ ص: 37 ] .
قلت : ونحوه قوله تعالى :
ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله .
قال
ابن فارس : وعلى ما يحتج به في ذلك قوله تعالى :
ن والقلم وما يسطرون فقد فسرهما
الحسن بالدواة والقلم ، ثم روى حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=929909أول ما خلق الله القلم ، وأمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ) قال بعضهم : وفي قوله صلى الله عليه وسلم ; أي : الذي استدل به للوجادة : (
يجيء بعدكم قوم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها ) علم من أعلام النبوة من إخباره عما سيقع ، وهو تدوين القرآن وكتبه في صحفه ; يعني : وكتابة الحديث . ولم يكن ذلك في زمنه صلى الله عليه وسلم .
إلى غير ذلك من الأدلة التي اقترن معها قصر الهمم ونقص الحفظ بالنسبة للزمن الأول ; لكون العرب كانوا مطبوعين على الحفظ مخصوصين به ، بحيث قال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : إني لأمر بالنقيع فأسد أذني مخافة أن يدخل فيها شيء من الخنا ، فوالله ما دخل أذني شيء قط فنسيته . وكذا قال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي نحوه ، وحفظ
ابن [ ص: 38 ] عباس رضي الله عنهما قصيدة
nindex.php?page=showalam&ids=16674عمر بن أبي ربيعة :
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
.
في سمعة واحدة فيما قيل ، بل بلغنا عن
البلقيني أنه حفظ قصيدة من مرة ، وليس أحد اليوم على هذا ، فخشي من عدم تقييده اندراسه وضياعه فدون .
ولذا قال
ابن صلاح : ولولا تدوينه في الكتب لدرس في الأعصر الأخيرة ، يعني : كما قال
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز في كتابه إلى
أهل المدينة : ( انظروا ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه فإني خشيت دروس العلم وذهاب العلماء ) .
وقال
عياض : " والحال اليوم داعية إلى الكتابة لانتشار الطرق وطول الأسانيد وقلة الحفظ وكلال الأفهام " .
وقال
الخطيب : قد صار علم الكاتب في هذا الزمان أثبت من علم الحافظ ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي قال : إن هذا العلم يند كما تند الإبل ، ولكن الكتب له حماة ،
[ ص: 39 ] والأقلام عليه رعاة .
وعن
أحمد وإسحاق : لولا الكتابة أي شيء كنا ؟ بل قال
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=17336وابن معين : كل من لا يكتب لا يؤمن عليه الغلط .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك قال : لولا الكتاب ما حفظنا . لا سيما وقد ذكروا في الجمع بين الأدلة في الطرفين طرقا ; أحدها : أن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره ، والإذن في غير ذلك ، ولذا خص بعضهم النهي بحياته صلى الله عليه وسلم ، ونحوه قول
nindex.php?page=showalam&ids=13332ابن عبد البر : النهي لئلا يتخذ من القرآن كتاب يضاهى به . يعني : فحيث أمن المحذور بكثرة حفاظه والمعتنين به وقوة ملكة من شاء الله منهم لتمييزه عن غيره لم يمتنع .
أو أن النهي خاص بكتابة غير القرآن مع القرآن في شيء واحد ; لأنهم كانوا يسمعون تأويله فربما كتبوه معه . قال شيخنا : ولعل من ذلك ما قرئ شاذا في قوله : ( ما لبثوا حولا في العذاب المهين ) والإذن في تفريقهما .
أو النهي متقدم والإذن ناسخ له عند الأمن من الالتباس ، كما جنح إليه
ابن شاهين ، فإن الإذن
لأبي شاه كان في فتح
مكة ، واستظهر لذلك بما روي أن
أهل مكة كانوا يكتبون . قال شيخنا : وهو أقربها مع أنه لا ينافيها .
وقيل : النهي لمن تمكن من الحفظ . والإذن لغيره ، وقصة
أبي شاه حيث كان الإذن له لما سأل فيها مشعرة بذلك .
وقيل : النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتاب دون الحفظ ، والإذن
[ ص: 40 ] لمن أمن منه ذلك ، ولذا روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين أنه كان لا يرى بالكتابة بأسا ، فإذا حفظ محاه ، ونحوه عن
عاصم بن ضمرة nindex.php?page=showalam&ids=17240وهشام بن حسان وغيرهما .
وعن
مالك قال : لم يكن القوم يكتبون ، إنما كانوا يحفظون ، فمن كتب منهم الشيء فإنما كان ليحفظه فإذا حفظه محاه .
وقد روى
البيهقي ومن طريقه
ابن صلاح عن
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي قال : كان هذا العلم كريما تتلاقاه الرجال بينهم ، فلما دخل في الكتب دخل فيه غير أهله . إلى غير ذلك كالقول في حديث
أبي سعيد في النهي أن الصواب وقفه كما ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري وغيره .
وبالجملة فالذي استقر الأمر عليه الإجماع على الاستحباب بل قال
[ ص: 41 ] شيخنا : إنه لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان ممن يتعين عليه تبليغ العلم . ونحوه قول
الذهبي : إنه تعين في المائة الثالثة وهلم جرا وتحتم . قال غيرهما : ولا ينبغي الاقتصار عليها حتى لا يصير له تصور ولا يحفظ شيئا ، فقد قال
الخليل :
ليس بعلم ما حوى القمطر ما العلم إلا ما حواه الصدر
وقال آخر :
استودع العلم قرطاسا فضيعه وبئس مستودع العلم القراطيس
ولذا قال
ثعلب : إذا أردت أن تكون عالما فاكسر القلم .
وأول من دون الحديث
nindex.php?page=showalam&ids=12300ابن شهاب الزهري على رأس المائة الثانية بأمر
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز ، وبعث به إلى كل أرض له عليها سلطان ، ثم كثر التدوين ثم التصنيف ، وحصل بذلك خير كثير ، وحينئذ فقد قال
السبكي : ينبغي للمرء أن يتخذ كتابة العلم عبادة ، سواء توقع أن يترتب عليها فائدة أم لا .
قال بعض العلماء : وإنما لم يجر الخلاف بين المتقدمين أيضا في القرآن ; لأن الدواعي تتوفر على حفظه وإن كان مكتوبا ، وذلك للذاذة نظمه وإيجازه ، وحسن تأليفه وإعجازه ، وكمال
[ ص: 42 ] بلاغاته ، وحسن تناسب فواصله وغاياته ، وزيادة التبرك به ، وطلب تحصيل الأجور العظيمة بسببه .