[
معنى التأليف وفوائده ] :
( وبادر إذا تأهلت ) واستعددت ( إلى التأليف ) الذي هو أعم من التخريج والتصنيف والانتقاء ; إذ التأليف مطلق الضم ، والتخريج إخراج المحدث الأحاديث من بطون الأجزاء والمشيخات والكتب ونحوها ، وسياقها من مرويات نفسه أو بعض شيوخه أو أقرانه أو نحو ذلك ، والكلام عليها وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين مع بيان البدل والموافقة ونحوهما مما سيأتي تعريفه ، وقد يتوسع في إطلاقه على مجرد الإخراج والعزو .
والتصنيف جعل كل صنف على حدة ، والانتقاء التقاط ما يحتاج إليه من الكتب والمسانيد ونحوها مع استعمال كل منها عرفا مكان الآخر ، فباشتغالك بالتأليف ( تمهر ) - بالجزم مع ما بعده جوابا للشرط المنوي في الأمر - في الصناعة ، وتقف على غوامضها ، وتستبن لك الخفي من فوائدها ، ( وتذكر ) بذلك بين العلماء والمحصلين إلى آخر الدهر ، ويرجى لك بالنية الصادقة الرقي إلى أوج المنافع العظيمة والدرجات العلية الجسيمة .
وقد قال
الخطيب ، كما رويناه في جامعه : قلما يتمهر في علم الحديث ، ويقف على غوامضه ، ويستبين الخفي من فوائده إلا من جمع متفرقه ، وألف
[ ص: 318 ] مشتته ، وضم بعضه إلى بعض ، واشتغل بتصنيف أبوابه وترتيب أصنافه ; فإن ذلك الفعل مما يقوي النفس ، ويثبت الحفظ ، ويذكي القلب ، ويشحذ الطبع ، ويبسط اللسان ، ويجيد البنان ، ويكشف المشتبه ، ويوضح الملتبس ، ويكسب أيضا جميل الذكر ، وتخليده إلى آخر الدهر كما قال الشاعر :
يموت قوم فيحيي العلم ذكرهم والجهل يلحق أحياء بأموات
انتهى .
ونحوه قول
الحسن بن علي البصري :
العلم أفضل شيء أنت كاسبه فكن له طالبا ما عشت مكتسبا
والجاهل الحي ميت حين تنسبه والعالم الميت حي كلما نسبا
وما أحسن قول
التاج السبكي : العالم وإن امتد باعه ، واشتد في ميادين الجدال دفاعه ، واستد ساعده حتى خرق به كل سد سد بابه ، وأحكم امتناعه ، فنفعه قاصر على مدة حياته ، ما لم يصنف كتابا يخلد بعده ، أو يورق علما ينقله عنه تلميذ إذا وجد الناس فقده ، أو تهتدي به فئة مات عنها وقد ألبسها به الرشاد برده ، ولعمري إن التصنيف لأرفعها مكانا ; لأنه أطولها زمانا ، وأدومها إذا مات أحيانا .
ولذلك لا يخلو لنا وقت يمر بنا خاليا عن التصنيف ، ولا يخلو لنا زمن إلا وقد تقلد عقده جواهر التأليف ، ولا يجلو علينا الدهر ساعة فراغ إلا ونعمل فيها القلم بالترتيب والترصيف .
قال
الخطيب : وينبغي أن يفرغ المصنف للتصنيف قلبه ، ويجمع له همه ، ويصرف إليه شغله ، ويقطع به وقته ، وقد كان بعض شيوخنا يقول : من أراد الفائدة فليكسر قلم النسخ ، وليأخذ قلم التخريج .
وحدثني
محمد بن علي بن عبد الله [ ص: 319 ] الصوري قال : رأيت
nindex.php?page=showalam&ids=16390أبا محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ في المنام في سنة إحدى عشرة وأربعمائة ، فقال لي : يا
أبا عبد الله ، خرج وصنف قبل أن يحال بينك وبينه ، هذا أنا تراني قد حيل بيني وبين ذلك ، ثم انتبهت .
وساق قبل يسير عن
nindex.php?page=showalam&ids=16419عبد الله بن المعتز أنه قال : علم الإنسان ولده المخلد . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13873أبي الفتح البستي الشاعر أنه أنشد من نظمه :
يقولون : ذكر المرء يبقى بنسله وليس له ذكر إذا لم يكن نسل فقلت لهم : نسلي بدائع حكمتي
فمن سره نسل فإنا بذا نسلوا
ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=930031إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ) .