[ ص: 127 ] قال
أبو محمد : فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته وتتبعوه من مظانه وتقربوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطلبهم لآثاره وأخباره برا وبحرا وشرقا وغربا ، يرحل الواحد منهم راجلا مقويا في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة ، ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي فنبهوا على ذلك ، حتى نجم الحق بعد أن كان عافيا وبسق بعد أن كان دارسا واجتمع بعد أن كان متفرقا ، وانقاد للسنن من كان عنها معرضا وتنبه عليها من كان عنها غافلا ، وحكم بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن كان يحكم بقول فلان وفلان ، وإن كان فيه خلاف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 128 ] تمييز الأحاديث الموضوعة للتحذير فيها :
وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف ، وطلبهم الغرائب ، وفي الغريب الداء . ولم يحملوا الضعيف والغريب لأنهم رأوهما حقا ، بل جمعوا الغث والسمين والصحيح والسقيم ليميزوا بينهما ويدلوا عليهما ، وقد فعلوا ذلك فقالوا في الحديث المرفوع : "
شرب الماء على الريق يعقد الشحم " هو موضوع ، وضعه
عاصم الكوزي .
وفي حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أنه كان يبصق في الدواة ويكتب منها ، موضوع وضعه
عاصم الكوزي . قالوا : وحديث
الحسن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
لم يجز طلاق المريض " موضوع ، وضعه
سهل السراج . قالوا
وسهل كان يروى أنه رأى
الحسن يصلي بين سطور القبور ، وهذا باطل لأن
الحسن روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
نهى عن الصلاة بين القبور قالوا : وحديث
أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال :
لا يزال الرجل راكبا ما دام منتعلا ، باطل وضعه
أيوب بن خوط . وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=146عمرو بن حريث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949646رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يشار بين يديه يوم العيد بالحراب ، هو باطل ، وضعه
المنذر بن زياد .
[ ص: 129 ] وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=51ابن أبي أوفى :
رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمس لحيته في الصلاة ، وضعه
المنذر بن زياد . وحديث
يونس عن
الحسن :
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن عشر كنى ، موضوع ، وضعه
أبو عصمة قاضي مرو .
وقالوا في
أحاديث موجودة على ألسنة الناس ، ليس لها أصل :
منها :
من سعادة المرء خفة عارضيه . ومنها :
سموهم بأحب الأسماء إليهم ، وكنوهم بأحب الكنى إليهم . ومنها :
خير تجارتكم البز وخير أعمالكم الخرز . ومنها :
لو صدق السائل ما أفلح من رده . ومنها :
الناس أكفاء إلا حائكا أو حجاما . مع حديث كثير ، لا يحاط به قد رووه ، وأبطلوه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16418ابن المبارك في أحاديث
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب ، من قرأ سورة كذا فله كذا ومن قرأ سورة كذا فله كذا : أظن الزنادقة وضعته . وكذلك هذه الأحاديث التي يشنع بها عليهم ، من عرق الخيل وزغب الصدر وقفص الذهب وعيادة الملائكة ، هي كلها باطل ، لا طرق لها ولا رواة ، ولا نشك في وضع الزنادقة لها .
تأويل الأحاديث الصحيحة المشكلة :
قال
أبو محمد : وقد جاءت أحاديث صحاح مثل :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949654قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن [ ص: 130 ] و
nindex.php?page=hadith&LINKID=949605إن الله تعالى خلق آدم على صورته و
nindex.php?page=hadith&LINKID=949655كلتا يديه يمين و
nindex.php?page=hadith&LINKID=949656يحمل الله الأرض على أصبع ويجعل كذا على أصبع وكذا على أصبع و
لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن و
nindex.php?page=hadith&LINKID=949658كثافة جلد الكافر في النار أربعون ذراعا بذراع الجبار .
قال
أبو محمد : ولهذه الأحاديث مخارج سنخبر بها في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله .
وربما نسي الرجل منهم الحديث قد حدث به ، وحفظ عنه ، ويذاكر به فلا يعرفه ، ويخبر بأنه قد حدث به فيرويه عمن سمعه منه ، ضنا بالحديث الجيد ورغبة في السنة ، كرواية
nindex.php?page=showalam&ids=15885ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن
nindex.php?page=showalam&ids=16068سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=949659قضى باليمين مع الشاهد قال
ربيعة : ثم ذاكرت
سهيلا بهذا الحديث ، فلم يحفظه ، وكان بعد ذلك يرويه عني عن نفسه عن أبيه عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة .
وكرواية
nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع وأبي معاوية عن
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة ، حديثين أحدهما عن
nindex.php?page=showalam&ids=16406ابن أبي نجيح عن
مجاهد قال حدثناه
محمد بن هارون [ ص: 131 ] قال : نا
nindex.php?page=showalam&ids=14385إبراهيم بن بشار قال نا
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة عن
أبي معاوية عن
nindex.php?page=showalam&ids=16406ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قول الله :
يوم تمور السماء مورا قال : تدور دورا . وعن
عمرو عن
عكرمة في قول الله تعالى :
من صياصيهم قال : الحصون ، فسئل
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة عنهما فلم يعرفهما ، وحدث
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة بهما عنهما عن نفسه .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة عن
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار عن
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز ، أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئا ، فسأل عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16008ابن عيينة فلم يعرفه ، ثم حدث به بعد عن
nindex.php?page=showalam&ids=13382ابن علية عن نفسه .
التنبيه إلى الأحاديث الضعيفة :
قال
أبو محمد : وكان
nindex.php?page=showalam&ids=17116معتمر بن سليمان يقول : حدثني منقذ عني ، عن
أيوب عن
الحسن قال : " ويح " كلمة رحمة .
وقد نبهوا على الطرق الضعاف كحديث
nindex.php?page=showalam&ids=5947عمرو بن سعيد عن
[ ص: 132 ] أبيه عن جده ، لأنها مأخوذة عندهم من كتاب ، وكان
مغيرة لا يعبأ بحديث
nindex.php?page=showalam&ids=15957سالم بن أبي الجعد ولا بحديث خلاس ولا بصحيفة
nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو . وقال
مغيرة : كانت
nindex.php?page=showalam&ids=13لعبد الله بن عمرو صحيفة تسمى الصادقة ، ما تسرني أنها لي بفلسين . وقال : حديث أصحاب عبد
nindex.php?page=showalam&ids=10الله بن مسعود عن
علي أصح من حديث أصحاب علي عنه ، وقال
شعبة : لأن أزني كذا وكذا زنية أحب إلي من أن أحدث عن
أبان بن أبي عياش [ ص: 133 ] ضعفهم باللغة والمعرفة :
وأما طعنهم عليهم بقلة المعرفة لما يحملون ، وكثرة اللحن والتصحيف ، فإن الناس لا يتساوون جميعا في المعرفة والفضل ، وليس صنف من الناس إلا وله حشو وشوب .
فأين هذا العايب لهم عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري أعلم الناس بكل فن ،
nindex.php?page=showalam&ids=15744وحماد بن سلمة nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك بن أنس وابن عون وأيوب nindex.php?page=showalam&ids=17419ويونس بن عبيد nindex.php?page=showalam&ids=16043وسليمان التيمي nindex.php?page=showalam&ids=16004وسفيان الثوري nindex.php?page=showalam&ids=17293ويحيى بن سعيد nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي وشعبة nindex.php?page=showalam&ids=16418وعبد الله بن المبارك وأمثال هؤلاء من المتقنين ؟ .
المنفرد بفن لا يعاب بالزلل في غيره :
على أن المنفرد بفن من الفنون لا يعاب بالزلل في غيره ، وليس على المحدث عيب أن يزل في الإعراب ولا على الفقيه أن يزل في الشعر ، وإنما يجب على كل ذي علم أن يتقن فنه إذا احتاج الناس إليه فيه وانعقدت له الرئاسة به ، وقد يجتمع للواحد علوم كثيرة والله يؤتي الفضل من يشاء .
[ ص: 134 ] وقد قيل
لأبي حنيفة - وكان في الفتيا ولطف النظر واحد زمانه - : ما تقول في رجل تناول صخرة فضرب به رأس رجل فقتله ، أتقيده به ؟ فقال : لا ولو رماه
بأبا قبيس . وكان
nindex.php?page=showalam&ids=15211بشر المريسي يقول لجلسائه : قضى الله لكم الحوائج على أحسن الأمور وأهنؤها ، فنظر
قاسم التمار قوما يضحكون من قول
بشر ، فقال : هذا كما قال الشاعر
إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كان يرزؤها
.
وبشر رأس في الرأي ،
وقاسم التمار متقدم في أصحاب الكلام واحتجاجه
لبشر أعجب من لحن
بشر .
وقال
بلال لشبيب بن شيبة وهو يستعدي على
عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر : أحضرنيه ، فقال : قد دعوته فكل ذلك يأبى علي ، قال
بلال : فالذنب لكل .
[ ص: 135 ] ولا أعلم أحدا من أهل العلم والأدب إلا وقد أسقط في علمه
nindex.php?page=showalam&ids=13721كالأصمعي وأبي زيد وأبي عبيدة nindex.php?page=showalam&ids=16076وسيبويه والأخفش nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء nindex.php?page=showalam&ids=12112وأبي عمرو الشيباني ، وكالأئمة من قراء القرآن والأئمة من المفسرين .
وقد أخذ الناس على الشعراء في الجاهلية والإسلام الخطأ في المعاني وفي الإعراب وهم أهل اللغة وبهم يقع الاحتجاج ، فهل أصحاب الحديث في سقطهم إلا كصنف من الناس ؟ على أنا لا نخلي أكثرهم من العذل في كتبنا ، في تركهم الاشتغال بعلم ما قد كتبوا والتفقه بما جمعوا ، وتهافتهم على طلب الحديث من عشرة أوجه وعشرين وجها ، وقد كان في الوجه الواحد الصحيح والوجهين مقنع لمن أراد الله - عز وجل - بعلمه ، حتى تنقضي أعمارهم ولم يحلوا من ذلك إلا بأسفار أتعبت الطالب ولم تنفع الوارث .
[ ص: 136 ] فمن كان من هذه الطبقة فهو عندنا مضيع لحظه مقبل على ما كان غيره أنفع له منه ، وقد لقبوهم
بالحشوية والنابتة والمجبرة ، وربما قالوا :
الجبرية وسموهم الغثاء والغثر .