[ ص: 260 ] قالوا حديث تكذبه حجة العقل والنظر .
40 -
هل سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قالوا : رويتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر ، وجعل سحره في
بئر ذي أروان ، وأن
عليا - كرم الله وجهه - استخرجه ، وكلما حل منه عقدة وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خفة ، فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنما أنشط من عقال . وهذا لا يجوز على نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لأن السحر كفر ، وعمل من أعمال الشيطان ، فيما يذكرون . فكيف يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع حياطة الله تعالى له وتسديده إياه بملائكته وصونه الوحي عن الشيطان ؟ والله تعالى يقول في القرآن :
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنتم تزعمون أن الباطل هاهنا هو الشيطان ؟ .
وقال
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا أي : يجعل بين يديه وخلفه رصدا من الملائكة يحفظونه ويصونون الوحي عن أن يدخل فيه الشيطان ما ليس منه .
[ ص: 261 ] وذهبوا في السحر إلى أنه حيلة يصرف بها وجه المرء عن أخيه ، ويفرق بها بين المرء وزوجه ، كالتمائم والكذب . وقالوا : هذه رقى ، ومنه السم يسقاه الرجل فيقطعه عن النساء ، ويغير خلقه وينثر شعره ولحيته . وإلى أن سحرة
فرعون خيلوا
لموسى - صلى الله عليه وسلم - ما أروه ، قالوا : ومثل ذلك أنا نأخذ الزئبق فنفرغه في وعاء كالحية ، ثم نرسله في موضع حار فينساب انسياب الحية .
قالوا : ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى :
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى إنما هو تخييل وليس ثم شيء على حقيقته . وقالوا : في قول الله تعالى
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت هو بمعنى النفي ، أي : لم ينزل ذلك ، وقالوا : الملكين بكسر اللام .
وذكروا عن
الحسن أنه كان يقرؤها كذلك ويقول : علجان من أهل
بابل .
قال
أبو محمد : ونحن نقول إن الذي يذهب إلى هذا مخالف للمسلمين
واليهود والنصارى وجميع أهل الكتب ، ومخالف للأمم كلها .
الهند ، وهي أشدها إيمانا بالرقى ،
والروم ، والعرب في الجاهلية وفي الإسلام ، ومخالف للقرآن معاند له بغير تأويل ، لأن الله - جل وعز - قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم -
قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق ومن شر غاسق إذا وقب ومن شر النفاثات في العقد [ ص: 262 ] فأعلمنا أن السواحر ينفثن في عقد يعقدنها ، كما يتفل الراقي والمعوذ ، وكانت
قريش تسمي السحر العضه ،
ولعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العاضهة والمستعضهة ، يعني بالعاضهة : الساحرة ، وبالمستعضهة التي تسألها أن تسحر لها . وقال الشاعر : .
أعوذ بربي من النافثات في عقد العاضه المعضه
يعني : السواحر ، وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=13608ابن نمير عن
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة - رضي الله عنها - وهذا طريق مرضي صحيح ، أنه قال حين سحر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949790جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي ، فقال أحدهما : ما وجع الرجل ؟ قال : مطبوب . فقال : من طبه ؟ قال : لبيد بن الأعصم . قال : في أي شيء ؟ قال : في مشط ومشاطة ، وجف طلعة ذكر . قال : وأين هو ؟ قال : في بئر ذي أروان .
وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعا ولا يصرفون عنها ضرا ، ولا يكسبون به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثناء ومدحا ، ولا حملة هذا الحديث كذابين ولا متهمين ، ولا معادين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وما ينكر أن يكون
لبيد بن الأعصم - هذا اليهودي - سحر
[ ص: 263 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قتلت
اليهود قبله
زكريا بن آذن في جوف شجرة ، قطعته قطعا بالمناشير .
وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=17285وهب بن منبه أو غيره أنه - عليه السلام - لما وصل المنشار إلى أضلاعه أن ، فأوحى الله تعالى إليه : إما أن تكف عن أنينك ، وإما أن أهلك الأرض ومن عليها .
وقتلت بعده ابنه
يحيى بقول بغي ، واحتيالها في ذلك ، وادعت - يعني
اليهود - أنها قتلت
المسيح وصلبته ، ولو لم يقل الله تعالى
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم لم نعلم نحن أن ذلك شبهه ، لأن
اليهود أعداؤه ، وهم يدعون ذلك ،
والنصارى أولياؤه وهم يقرون لهم به ، وقتلت الأنبياء وطبختهم وعذبتهم أنواع العذاب ، ولو شاء الله - جل وعز - لعصمهم منهم ، وقد سم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذراع شاة مشوية سمته يهودية ، فلم يزل السم يعاوده حتى مات ، وقال - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949791ما زالت أكلة خيبر تعاودني ، فهذا أوان انقطاع أبهري [ ص: 264 ] فجعل الله تعالى لليهودية عليه السبيل حتى قتلته ، ومن قبل ذلك ما جعل الله لهم السبيل على النبيين .
والسحر أيسر خطبا من القتل والطبخ والتعذيب ، فإن كانوا إنما أنكروا ذلك ، لأن الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي - صلى الله عليه وسلم - سبيلا ، ولا على الأنبياء ، فقد قرأوا في كتاب الله تعالى
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته يريد إذا تلا ، ألقى الشيطان في تلاوته ، يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه حين قرأ في الصلاة : ( تلك الغرانيق العلى * وإن شفاعتهن ترتجى ) غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه .
أما تسمعه يقول
فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته أي : يبطل ما ألقاه الشيطان ، ثم قال :
ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض وكذلك قوله في القرآن
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أي : لا يقدر الشيطان أن يزيد فيه أولا ولا آخرا .
قال
أبو محمد : حدثني
أبو الخطاب قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=15535بشر بن المفضل عن
يونس عن
الحسن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
إن جبريل - عليه السلام - أتاني ، فقال : إن عفريتا من الجن يكيدك ، فإذا أويت إلى فراشك فقل : الله لا إله إلا هو الحي القيوم حتى تختم آية الكرسي .
[ ص: 265 ] وقد حكى الله تعالى عن
أيوب - صلى الله عليه وسلم - فقال :
أني مسني الشيطان بنصب وعذاب قال
أبو محمد : وأما قولهم في السحر الذي رآه
موسى - صلى الله عليه وسلم - : إنه تخييل إليه وليس على حقيقته ، فما ننكر هذا ولا ندفعه وإنا لنعلم أن الخلائق كلها لو اجتمعوا على خلق بعوضة لما استطاعوا ، غير أنا لا ندري أهو بالزئبق الذي ادعوا أنهم جعلوه في سلوخ الحيات حتى جرت ، أم بغيره ؟ ولا يعلم هذا إلا من كان ساحرا أو من سمع فيه شيئا من السحرة .
وأما قولهم في قول الله تبارك وتعالى
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان ثم قال :
يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين إن تأويله : ولم ينزل على الملكين
ببابل ، فليس هذا بمنكر من تأويلاتهم المستحيلة المنكوسة .
فإذا كان لم ينزل على الملكين
ببابل هاروت وماروت ، صار الكلام فضلا لا معنى له . وإنما يجوز بأن يدعي مدع أن السحر أنزل على الملكين ، ويكون فيما تقدم ذكر ذلك ، أو دليل عليه فيقول الله تعالى : " اتبعوا ذلك " . ولم ينزل على الملكين كما ذكروا ؟ .
ومثال هذا أن يقول مبتدئا : علمت هذا الرجل القرآن وما أنزل على
موسى - عليه السلام - فلا يتوهم سامع هذا أنك أردت أن القرآن لم ينزل على
موسى - عليه السلام - ، لأنه لم يتقدمه قول أحد أنه أنزل على
موسى - عليه السلام - ، وإنما يتوهم السامع أنك علمته القرآن والتوراة .
[ ص: 266 ] وتأويل هذا عندنا يتبين بمعرفة الخبر المروي فيه . وجملته على ما ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن
سليمان - صلى الله عليه وسلم - لما عوقب وخلفه الشيطان في ملكه ، دفنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرا ، وأخذا ونيرنجات .
فلما مات
سليمان - صلى الله عليه وسلم - جاءت الشياطين إلى الناس فقالوا : ألا ندلكم على الأمر الذي سخرت به
لسليمان الريح والجن ، ودانت له به الإنس ؟ قالوا : بلى ، فأتوا مصلاه وموضع كرسيه فاستخرجوا ذلك منه ، فقال العلماء من
بني إسرائيل : ما هذا من دين الله وما كان
سليمان ساحرا ، وقال سفلة الناس :
سليمان كان أعلم منا ، فسنعمل بهذا كما عمل .
فقال الله تعالى :
واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان أي : اتبعت
اليهود ما ترويه الشياطين ، والتلاوة والرواية شيء واحد . ثم قال :
وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين وهما ملكان أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو
آدم بالمعاصي ، ليقضيا بين الناس . وألقي في قلوبهما شهوة النساء ، وأمرا أن لا يزنيا ولا يقتلا ولا يشربا خمرا ، فجاءتهما الزهرة تخاصم إليهما فأعجبتهما فأراداها ، فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الذي يصعدان به إلى السماء . فعلماها ثم أراداها فأبت حتى يشربا الخمر ، فشرباها
[ ص: 267 ] وقضيا حاجتهما ، ثم خرجا ، فرأيا رجلا فظنا أنه قد ظهر عليهما فقتلاه ، وتكلمت الزهرة بذلك الاسم فصعدت ، فخنست وجعلها الله شهابا . وغضب الله تعالى على الملكين ، فسماهما
هاروت وماروت ، وخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا فهما يعلمان الناس ما يفرقون به بين المرء وزوجه .
والذي أنزل الله - عز وجل - على الملكين فيما يرى أهل النظر - والله أعلم - هو الاسم الأعظم الذي صعدت به الزهرة ، وكانا به قبلها وقبل السخط عليهما يصعدان إلى السماء ، فعلمته الشياطين فهي تعلمه أولياءها وتعلمهم السحر . وقد يقال : إن الساحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض ، ويطفو على الماء .
قال
أبو محمد : حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=15943زيد بن أخزم الطائي قال حدثنا
عبد الصمد قال حدثنا
همام عن
يحيى بن كثير : أن عامل
عمان كتب إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - : ( إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت ) . فكتب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز : ( لسنا من الماء في شيء ، إن قامت البينة ، وإلا فخل سبيلها ) .
[ ص: 268 ] وحدثني
nindex.php?page=showalam&ids=15943زيد بن أخزم الطائي قال حدثنا
عبد الصمد قال حدثنا
زيد بن أبي ليلى قال حدثنا
عميرة بن شكير قال : كنا مع
سنان بن سلمة بالبحرين ، فأتي بساحرة فأمر بها فألقيت في الماء ، فطفت ، فأمر بصلبها فنحتنا جذعا فجاء زوجها كأنه سفود محترق ، فقال : مرها فلتطلق عني ، فقال لها : أطلقي عنه ، فقالت : نعم ، ائتوني بباب وغزل ، فقعدت على الباب ، وجعلت ترقي في الغزل وتعقد ، فارتفع الباب . فأخذنا يمينا وشمالا فلم نقدر عليها .
وحدثنا
أبو حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي قال : أخبرني
محمد بن سليم الطائي في حديث ذكره : إن الشياطين لا تستطيع أن تغير خلقها ولكنها تسحره .
وحدثني
أبو حاتم قال : قال
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12114أبي عمرو بن العلاء : ( إن الغول ساحرة الجن ) . وحدثنا
أبو الخطاب قال : حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17116المعتمر بن سليمان قال : سمعت
منصورا يذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=15883ربعي بن خراش عن
حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=949793لأنا أعلم بما مع الدجال إن معه نارا تحرق ونهر ماء بارد ، فمن أدركه منكم فلا يهلكن به وليغمض عينه وليقع في التي يراها نارا ، فإنها نهر ماء بارد .
وحدثني
أبو حاتم عن
nindex.php?page=showalam&ids=13721الأصمعي عن
أبي الزناد قال : جاءت امرأة تستفتي فوجدت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد توفي ، ولم تجد إلا امرأة من نسائه يقال
[ ص: 269 ] إنها
عائشة - رضي الله عنها - فقالت لها : يا أم المؤمنين ، قالت لي امرأة : هل لك أن أعمل لك شيئا يصرف وجه زوجك إليك ؟ وأظنه قال : فأتت بكلبين ، فركبت واحدا وركبت الآخر ، فسرنا ما شاء الله ، ثم قالت : أتدرين أين أنت ؟ إنك
ببابل . ودخلت على رجل ، أو قالت : رجلين ، فقالا لها : بولي على ذلك الرماد ، قالت فذهبت فلم أبل ، ورجعت إليهما ، فقالا لي : ما رأيت ؟ قالت : ما رأيت شيئا ، قالا : أنت على رأس أمرك ، قالت : فرجعت فتشددت ثم بلت ، فخرج مني مثل الفارس المقنع ، فصعد في السماء . فرجعت إليهما ، فقالا لي : ما رأيت ؟ فأخبرتهما ، فقالا : ذلك إيمانك قد فارقك . .
فخرجت إلى المرأة ، فقلت : والله ما علماني شيئا ، ولا قالا لي كيف أصنع ؟ قالت : فما رأيت قلت كذا ، قالت : أنت أسحر العرب ، اعملي وتمني . قالت : فقطعت جداول ، وقالت : احقل ، فإذا هو زرع يهتز . فقالت : افرك ، فإذا هو قد يبس . قالت : فأخذته ففركته وأعطتنيه ، فقالت : جشي هذا واجعليه سويقا ، واسقيه زوجك ، فلم أفعل شيئا من ذلك ، وانتهى الشأن إلى هذا . فهل لي من توبة ؟ .
قالت : ورأت رجلا من خزاعة ، كان يسكن أمج ، فقالت : يا أم المؤمنين هذا أشبه الناس
بهاروت وماروت .
[ ص: 270 ] قال
أبو محمد : وقد روى هذا
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج عن
nindex.php?page=showalam&ids=12531ابن أبي مليكة عن
عائشة - رضي الله عنها - . قال
أبو محمد : وهذا شيء لم نؤمن به من جهة القياس ولا من جهة حجة العقل ، وإنما آمنا به من جهة الكتب وأخبار الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - وتواطؤ الأمم في كل زمان عليه ، خلا هذه العصابة ، التي لا تؤمن إلا بما أوجبه النظر ، ودل عليه القياس ، فيما شاهدوا ورأوا .
وأما قول
الحسن : إنهما علجان من أهل
بابل وقراءته الملكين بالكسر ، فهذا شيء لم يوافقه أحد من القراء ولا المتأولين فيما أعلم ، وهو أشد استكراها وأبعد مخرجا ، وكيف يجوز أن ينزل على علجين شيء يفرقان به بين المرء وزوجه ؟ ! .