يستحب للمحدث العارف عقد مجلس لإملاء الحديث فإنه أعلى مراتب الرواية ، ويتخذ مستمليا محصلا متيقظا يبلغ عنه إذا كثر الجمع على عادة الحفاظ ، ويستملي مرتفعا وإلا قائما وعليه تبليغ لفظه على وجهه . وفائدة المستملي تفهيم السامع على بعد ، وأما من لم يسمع إلا المبلغ فلا يجوز له روايته عن المملي إلا أن يبين الحال ، وقد تقدم هذا في الرابع والعشرين .
ويستنصت المستملي الناس بعد قراءة قارئ حسن الصوت شيئا من القرآن ، ثم يبسمل ويحمد الله تعالى ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتحرى الأبلغ فيه ، ثم يقول للمحدث من أو ما ذكرت رحمك الله ؟ أو رضي عنك وما أشبهه ، وكلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صلى عليه وسلم .
. قال الخطيب : ويرفع بها صوته ، وإذا ذكر صحابيا : رضي عليه ، فإن كان ابن صحابي قال : رضي الله عنهما ، ويحسن بالمحدث الثناء على شيخه حال الرواية بما هو أهله كما فعله جماعات من السلف ، وليعتن بالدعاء له فهو أهم ، ولا بأس بذكر من يروي عنه بلقب أو وصف أو حرفة أو أم عرف بها . ويستحب أن يجمع في إملائه جماعة من شيوخه مقدما أرجحهم ، ويروي عن كل شيخ حديثا ويختار ما علا سنده وقصر متنه ، والمستفاد منه ، وينبه على صحته وما فيه من علو وفائدة ، وضبط مشكل ، وليجتنب ما لا تحتمله عقولهم وما لا يفهمونه ، ويختم الإملاء بحكايات ونوادر وإنشادات بأسانيدها ، وأولاها ما في الزهد ، والآداب ، ومكارم الأخلاق . وإذا قصر المحدث أو اشتغل عن تخريج الإملاء استعان ببعض الحفاظ ، وإذا فرغ الإملاء قابله وأتقنه .
روى nindex.php?page=showalam&ids=13357ابن عدي والبيهقي في " المدخل " من طريقه : أنبأنا عبد الصمد بن عبد الله ومحمد بن بشر الدمشقيان ، قالا : حدثنا nindex.php?page=showalam&ids=17246هشام بن عمار ، ثنا أبو الخطاب معروف الخياط ، قال : رأيت nindex.php?page=showalam&ids=105واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه يملي على الناس الأحاديث ، وهم يكتبونها بين يديه .
( ويتخذ مستمليا محصلا متيقظا يبلغ عنه إذا كثر الجمع على عادة الحفاظ ) في ذلك ، كما روي عن مالك ، وشعبة nindex.php?page=showalam&ids=17277ووكيع وخلائق .
وفي الصحيح عن nindex.php?page=showalam&ids=11969أبي جمرة قال : كنت أترجم بين nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وبين الناس .
فإن كثر الجمع بحيث لا يكفي مستمل اتخذ مستمليين فأكثر ، فقد أملى nindex.php?page=showalam&ids=15061أبو مسلم الكجي في رحبة غسان ، وكان في مجلسه سبعة مستملين يبلغ كل واحد صاحبه الذي يليه ، وحضر عنده نيف وأربعون ألف محبرة سوى النظارة .
وكان يحضر مجلس عاصم بن علي أكثر من مائة ألف إنسان .
ولا يكون المستملي بليدا ، كمستملي nindex.php?page=showalam&ids=17376يزيد بن هارون ، حيث سئل يزيد عن حديث فقال : حدثنا به عدة ، فصاح المستملي : يا أبا خالد عدة ابن من ؟ فقال له : ابن فقدتك .
ومن لطيف ما ورد في الاستملاء ، ما حكاه المزي في تهذيبه عن nindex.php?page=showalam&ids=16510عبدان بن محمد المروزي قال : رأيت الحافظ nindex.php?page=showalam&ids=14909يعقوب بن سفيان الفسوي في النوم ، فقلت ما فعل الله تعالى بك ، قال : غفر لي وأمرني أن أحدث في السماء السابعة كما كنت أحدث [ ص: 576 ] في الأرض ، فحدثت في السماء السابعة ، فاجتمع علي الملائكة واستملى علي جبريل ، وكتبوا بأقلام من الذهب .
وعن أحمد بن جعفر التستري قال : لما جاءني nindex.php?page=showalam&ids=14909يعقوب بن سفيان رأيته في النوم كأنه يحدث في السماء السابعة وجبريل يستملي عليه .
( ويستملي مرتفعا ) على كرسي ونحوه ، ( وإلا قائما ) على قدميه ، ليكون أبلغ للسامعين ، ( وعليه ) أي المستملي وجوبا ( تبليغ لفظه ) أي المملي وأداؤه ( على وجهه ) من غير تغيير .
( وفائدة المستملي تفهيم السامع ) لفظ المملي ( على بعد ) ليتحققه بصوته .
( وأما من لم يسمع إلا المبلغ ، فلا يجوز له روايته عن المملي ؛ إلا أن يبين الحال ، وقد تقدم هذا ) بما فيه ( في ) النوع ( الرابع والعشرين ) .
وقد ذكر المصنف في " الروضة " عن المتولي وجماعة من الخراسانيين : أن أبلغ ألفاظ الحمد ، الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ، وقال : ليس لذلك دليل معتمد .
قال البلقيني : بل الحمد لله رب العالمين ، لأنه فاتحة الكتاب وآخر دعوى أهل الجنة ؛ فينبغي الجمع بينهما .
ونقل في " الروضة " عن إبراهيم المروزي : أن أبلغ ألفاظ الصلاة اللهم صل على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون ، ثم قال : والصواب الذي ينبغي أن يجزم به ، أن أبلغها ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حيث قالوا : كيف نصلي عليك ؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين ، إنك حميد مجيد .
( ثم يقول ) المستملي ( للمحدث ) المملي ( من ؟ ) ذكرت أي من الشيوخ ، ( أو ما ذكرت ) أي من الأحاديث ، ( رحمك الله ، أو رضي عنك ، وما أشبهه ) .
قال nindex.php?page=showalam&ids=17299يحيى بن أكثم : نلت القضاء ، أو قضاء القضاة، والوزارة ، وكذا [ ص: 578 ] وكذا ، ما سررت بشيء مثل قول المستملي ، من ذكرت رحمك الله .
( وكلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صلى ) المستملي ( عليه وسلم ) .
( قال الخطيب : ويرفع بها صوته وإذا ذكر صحابيا رضى عليه فإن كان ابن صحابي قال : رضي الله عنهما ) .
وكذا يترحم على الأئمة ، فقد روى الخطيب أن الربيع بن سليمان قال له القارئ يوما : حدثكم nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ولم يقل رضي الله عنه ، فقال الربيع : ولا حرف حتى يقال : رضي الله عنه .
( ويحسن بالمحدث الثناء على شيخه حال الرواية ) عنه ( بما هو أهله كما فعله جماعات من السلف ) كقول nindex.php?page=showalam&ids=12150أبي مسلم الخولاني : حدثني الحبيب الأمين عوف بن مسلم .
وكقول مسروق : حدثتني nindex.php?page=showalam&ids=25الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله المبرأة .
وكقول عطاء : حدثني البحر ، يعني nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما .
وكقول شعبة : حدثني سيد الفقهاء أيوب .
وكقول nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع : حدثنا سفيان أمير المؤمنين في الحديث .
[ ص: 579 ] ( وليعتن بالدعاء له فهو أهم ) من الثناء المذكور . ويجمع في الشيخ بين اسمه وكنيته فهو أبلغ في إعظامه .
قال الخطيب : لكن يقتصر في الرواية على اسم من لا يشكل : كأيوب ، ويونس ، ومالك ، والليث ، ونحوهم ، وكذا على نسبة من هو مشهور بها : كابن عون ، nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج ، nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ، والنخعي ، nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ، nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ، ونحو ذلك .
( ولا بأس بذكر من يروي عنه بلقب ) كغندر ، ( أو وصف ) nindex.php?page=showalam&ids=13726كالأعمش ، ( أو حرفة ) كالخياط ، ( أو أم ) nindex.php?page=showalam&ids=13382كابن علية ، وإن كره ذلك ، إذا ( عرف بها ) ، وقصد تعريفه لا عيبه .
( ويستحب ) للمملي ( أن يجمع في إملائه ) الرواية ( عن جماعة من شيوخه ) ، ولا يقتصر على شيخ واحد ( مقدما أرجحهم ) بعلو سند أو غيره ، ولا يروي إلا عن ثقات من شيوخه ، دون كذاب أو فاسق أو مبتدع .
روى مسلم في مقدمة صحيحه عن nindex.php?page=showalam&ids=16349ابن مهدي قال : لا يكون الرجل إماما وهو يحدث بكل ما سمع ، ولا يكون الرجل إماما وهو يحدث عن كل أحد .
( ويروي عن كل شيخ حديثا ) واحدا في مجلس ، ( ويختار ) من الأحاديث ( ما علا سنده ، وقصر متنه ) وكان في الفقه أو الترغيب .
قال nindex.php?page=showalam&ids=16609علي بن حجر :
[ ص: 580 ]
وظيفتنا مائة للغريب في كل يوم سوى ما يعاد شريكية أو هشيمية أحاديث فقه فصار جياد
( و ) يتحرى ( المستفاد منه ، وينبه على صحته ) أي الحديث ، أو حسنه ، أو ضعفه ، أو علته إن كان معلولا ، ( و ) على ( ما فيه من علو ) ، وجلالة في الإسناد ، ( وفائدة ) في الحديث أو السند ، كتقديم تاريخ سماعه ، وانفراده عن شيخه ، وكونه لا يوجد إلا عنده ، ( وضبط مشكل ) في الأسماء ، أو غريب ، أو معنى غامض في المتن .
( وليجتنب ) من الأحاديث ( ما لا تحتمله عقولهم ، وما لا يفهمونه ) كأحاديث الصفات ، لما لا يؤمن عليهم من الخطأ والوهم والوقوع في التشبيه والتجسيم .
فقد قال علي : تحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ حدثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون رواه nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
وقد استدل له الخطيب بما رواه عن علي ؛ قال : روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري يقول لأصحابه : هاتوا من أشعاركم ، هاتوا من أحاديثكم فإن الأذن مجاجة والقلب حمض .
( وأولاها ما في الزهد والآداب ومكارم الأخلاق ) هذا من زوائد المصنف .
( وإذا قصر المحدث ) عن تخريج الإملاء لقصوره عن المعرفة بالحديث ، وعلله ، واختلاف وجوهه ، ( أو اشتغل عن تخريج الإملاء استعان ببعض الحفاظ ) في تخريج الأحاديث التي يريد إملاءها قبل يوم مجلسه ، فقد فعله جماعة كأبي الحسين بن بشران ، وأبي القاسم السراج ، وخلائق .
( وإذا فرغ الإملاء قابله وأتقنه ) لإصلاح ما فسد منه بزيغ القلم وطغيانه ، وفيه حديث nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت - رضي الله عنه - السابق في فرع المقابلة .
قال العراقي : وقد رخص nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح هناك في الرواية بدونها بشروط ثلاثة ، [ ص: 582 ] ولم يذكر ذلك هنا ، فيحتمل أن يحمل هذا على ما تقدم ، ويحتمل الفرق بين النسخ من أصل السماع والنسخ من إملاء الشيخ حفظا ؛ لأن الحفظ خوان .
قال : ولكن المقابلة للإملاء أيضا إنما هي مع الشيخ أيضا من حفظه ، لا على أصوله .
قلت : جرت عادتنا بتخريج الإملاء وتحريره في كراسة ، ثم نملي حفظا ، وإذا نجز قابله المملي معنا على الأصل الذي حررناه ؛ وذلك غاية الإتقان ، وقد كان الإملاء درس بعد nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح إلى أواخر أيام الحافظ nindex.php?page=showalam&ids=14371أبي الفضل العراقي ؛ فافتتحه سنة ست وتسعين وسبعمائة ، فأملى أربعمائة مجلس وبضعة عشر مجلسا إلى سنة موته سنة ست وثمانمائة ، ثم أملى ولده إلى أن مات - سنة ست وعشرين - ستمائة مجلس وكسرا .
ثم أملى شيخ الإسلام ابن حجر إلى أن مات سنة ثنتين وخمسين أكثر من ألف مجلس ، ثم درس تسع عشرة سنة ، فافتتحته أول سنة ثنتين وسبعين ، فأمليت ثمانين مجلسا ثم خمسين أخرى .
وروى nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ، عن عكرمة ، عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال : حدث الناس كل جمعة مرة فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرار ، ولا تمل الناس هذا القرآن ، ولا تأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم ، ولكن أنصت ؛ فإذا [ ص: 583 ] أمروك فحدثهم ، وهم يشتهونه .