معرفة مختلف الحديث وحكمه . هذا فن من أهم الأنواع ، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف ، وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا فيوفق بينهما أو يرجح أحدهما ، وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه ، والأصوليون الغواصون على المعاني ، وصنف فيه الإمام nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ، ولم يقصد - رحمه الله - استيفاءه ، بل ذكر جملة ينبه بها على طريقه ، ثم صنف فيه ابن قتيبة فأتى بأشياء حسنة وأشياء غير حسنة ، لكون غيرها أقوى وأولى ، وترك معظم المختلف .
ومن جمع ما ذكرنا لا يشكل عليه إلا النادر في الأحيان ، والمختلف قسمان : أحدهما : يمكن الجمع بينهما : فيتعين ويجب العمل بهما .
والثاني : لا يمكن بوجه ، فإن علمنا أحدهما ناسخا قدمناه ، وإلا عملنا بالراجح كالترجيح بصفات الرواة وكثرتهم في خمسين وجها .
( النوع السادس والثلاثون : معرفة مختلف الحديث وحكمه : هذا فن من أهم الأنواع ، ويضطر إلى معرفته جميع العلماء من الطوائف ، وهو أن يأتي حديثان متضادان في المعنى ظاهرا ، فيوفق بينهما ، أو يرجح أحدهما ) [ ص: 652 ] فيعمل به دون الآخر ، ( وإنما يكمل له الأئمة الجامعون بين الحديث والفقه ، والأصوليون الغواصون على المعاني ) الدقيقة .
( وصنف فيه الإمام nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ) وهو أول من تكلم فيه ، ( ولم يقصد رحمه الله استيفاءه ) ، ولا إفراده بالتأليف ( بل ذكر جملة منه ) في كتاب " الأم " ، ( ينبه بها على طريقه ) أي الجمع في ذلك .
( ثم صنف فيه ابن قتيبة ، فأتى فيه بأشياء حسنة ، وأشياء غير حسنة ) قصر فيها باعه ، ( لكون غيرها أولى وأقوى ) منها ، ( وترك معظم المختلف ) .
ثم صنف في ذلك nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، nindex.php?page=showalam&ids=14695والطحاوي كتابه مشكل الآثار .
وكان nindex.php?page=showalam&ids=13114ابن خزيمة من أحسن الناس كلاما فيه ، حتى قال : لا أعرف حديثين متضادين ؛ فمن كان عنده فليأتني به لأؤلف بينهما .
( ومن جمع ما ذكرنا ) من الحديث ، والفقه ، والأصول ، والغوص على المعاني الدقيقة ، ( لا يشكل عليه ) من ذلك ( إلا النادر في الأحيان ، والمختلف قسمان : أحدهما : يمكن الجمع بينهما ) بوجه صحيح ، ( فيتعين ) ولا يصار إلى التعارض ولا النسخ ، ( ويجب العمل بهما ) .
أحدها : أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها ، لكن الله تعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببا لإعدائه مرضه ، وقد يتخلف ذلك عن سببه ، كما في غيره من الأسباب ، وهذا المسلك هو الذي سلكه nindex.php?page=showalam&ids=12795ابن الصلاح .
الثاني : أن نفي العدوى باق على عمومه ، والأمر بالفرار من باب سد الذرائع ، [ ص: 654 ] لئلا يتفق للذي يخالطه شيء من ذلك بتقدير الله تعالى ; ابتداء لا بالعدوى المنفية ، فيظن أن ذلك بسبب مخالطته ، فيعتقد صحة العدوى ، فيقع في الحرج ، فأمر بتجنبه حسما للمادة ، وهذا المسلك هو الذي اختاره شيخ الإسلام .
الثالث : أن إثبات العدوى في الجذام ونحوه مخصوص من عموم نفي العدوى ، فيكون معنى قوله : nindex.php?page=hadith&LINKID=10347989لا عدوى أي إلا من الجذام ونحوه ، فكأنه قال : لا يعدي شيء شيئا إلا فيما تقدم تبييني له أنه يعدي ؛ قاله القاضي nindex.php?page=showalam&ids=12604أبو بكر الباقلاني .
( و ) القسم ( الثاني : لا يمكن ) الجمع بينهما ( بوجه ؛ فإن علمنا أحدهما ناسخا ) بطريقة مما سبق ( قدمناه ، وإلا عملنا بالراجح ) منهما ، ( كالترجيح بصفات الرواة ) أي كون رواة أحدهما أتقن وأحفظ ، ونحو ذلك مما سيذكر ، ( وكثرتهم ) في أحد الحديثين ( في خمسين وجها ) من المرجحات ، ذكرها الحازمي في كتابه " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ " ، ووصلها غيره إلى أكثر من مائة ، كما استوفى ذلك العراقي في نكته .
[ ص: 655 ] وقد رأيتها منقسمة إلى سبعة أقسام :
الأول : الترجيح بحال الراوي ، وذلك بوجوه :
أحدها : كثرة الرواة ، كما ذكر المصنف ، لأن احتمال الكذب والوهم على الأكثر أبعد من احتماله على الأقل .
ثانيها : قلة الوسائط ، أي علو الإسناد حيث الرجال ثقات ، لأن احتمال الكذب والوهم فيه أقل .
ثالثها : فقه الراوي ، سواء كان الحديث مرويا بالمعنى أو اللفظ ؛ لأن الفقيه إذا سمع ما يمتنع حمله على ظاهره بحث عنه حتى يطلع على ما يزول به الإشكال ؛ بخلاف العامي .
رابعها : علمه بالنحو ، لأن العالم به يتمكن من التحفظ عن مواقع الزلل مما لا يتمكن منه غيره .
خامسها : علمه باللغة .
سادسها : حفظه ، بخلاف من يعتمد على كتابه .
سابعها : أفضليته في أحد الثلاثة ، بأن يكونا فقيهين ، أو نحويين ، أو حافظين ، وأحدهما في ذلك أفضل من الآخر .
ثامنها : زيادة ضبطه ، أي اعتناؤه بالحديث واهتمامه به .
تاسعها : شهرته ، لأن الشهرة تمنع الشخص من الكذب كما تمنعه من ذلك التقوى .
عاشرها إلى العشرين : كونه ورعا ، أو حسن الاعتقاد ، أي غير مبتدع ، أو جليسا لأهل الحديث أو غيرهم من العلماء ، أو أكثر مجالسة لهم ، أو ذكرا ، أو حرا ، [ ص: 656 ] أو مشهور النسب ، أو لا لبس في اسمه بحيث يشاركه فيه ضعيف ، وصعب التمييز بينهما ، أو له اسم واحد ، ولذلك أكثر ولم يختلط ، أو له كتاب يرجع إليه .
حادي عشرينها : أن تثبت عدالته بالإخبار ، بخلاف من تثبت بالتزكية ، أو العمل بروايته ، أو الرواية عنه إن قلنا بهما .
ثاني عشرينها إلى سابع عشرينها : أن يعمل بخبره من زكاه ، ومعارضه لم يعمل به من زكاه ، أو يتفق على عدالته . أو يذكر سبب تعديله . أو يكثر مزكوه ، أو يكونوا علماء ، أو كثيري الفحص عن أحوال الناس .
ثامن عشرينها : أن يكون صاحب القصة ، كتقديم خبر nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم لمن أصبح جنبا على خبر nindex.php?page=showalam&ids=69الفضل بن العباس في منعه ؛ لأنها أعلم منه .
تاسع عشرينها : أن يباشر ما رواه الثلاثون تأخر إسلامه .
وقيل : عكسه ، لقوة أصالة المتقدم ومعرفته .
وقيل : إن تأخر موته إلى إسلام المتأخر لم يرجح بالتأخير ، لاحتمال تأخر روايته عنه ، وإن تقدم أو علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر رجح .
الحادي والثلاثون إلى الأربعين : كونه أحسن سياقا واستقصاء لحديثه ، أو أقرب مكانا ، أو أكثر ملازمة لشيخه ، أو سمع من مشايخ بلده ، أو مشافها مشاهدا لشيخه حال الأخذ ، أو لا يجيز الرواية بالمعنى ، أو الصحابي من أكابرهم ، أو علي رضى الله تعالى عنه وهو في الأقضية ، أو معاذ وهو في الحلال والحرام ، أو زيد وهو [ ص: 657 ] في الفرائض ، أو الإسناد حجازي ، أو رواته من بلد لا يرضون التدليس .
القسم الثاني : الترجيح بالتحمل ، وذلك بوجوه :
أحدها : الوقت ، فيرجح منهم من لم يتحمل الحديث إلا بعد البلوغ على من كان بعض تحمله قبله ، أو بعضه بعده ، لاحتمال أن يكون هذا مما قبله . والمتحمل بعده أقوى لتأهله للضبط .
ثانيها وثالثها : أن يتحمل بحدثنا ، والآخر عرضا ، أو عرضا والآخر كتابة ، أو مناولة أو وجادة .
القسم الثالث : الترجيح بكيفية الرواية ، وذلك بوجوه :
أحدها : تقديم المحكي بلفظه على المحكي بمعناه ، والمشكوك فيه على ما عرف أنه مروي بالمعنى ، ثانيها : ما ذكر فيه سبب وروده على ما لم يذكر فيه ؛ لدلالته على اهتمام الراوي به حيث عرف سببه .
ثالثها : أن لا ينكره راويه ولا يتردد فيه .
رابعها إلى عاشرها : أن تكون ألفاظه دالة على الاتصال ، كحدثنا وسمعت ، أو اتفق على رفعه أو وصله ; أو لم يختلف في إسناده أو لم يضطرب لفظه ، أو روى بالإسناد وعزى ذلك لكتاب معروف ، أو عزيز ، والآخر مشهور .
[ ص: 658 ] ثالثها : ترجيح المتضمن للتخفيف ، لدلالته على التأخر ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يغلظ في أول أمره زجرا عن عادات الجاهلية ، ثم مال للتخفيف .
كذلك قال صاحب الحاصل ، والمنهاج ، ورجح nindex.php?page=showalam&ids=14552الآمدي وابن الحاجب وغيرهما عكسه ؛ وهو تقديم المتضمن للتغليظ وهو الحق ، لأنه صلى الله عليه وسلم جاء أولا بالإسلام فقط ، ثم شرعت العبادات شيئا فشيئا .
رابعها : ترجيح ما تحمل بعد الإسلام على ما تحمل قبله ، أو شك ، لأنه أظهر تأخرا .
خامسها وسادسها : ترجيح غير المؤرخ على المؤرخ بتاريخ متقدم ، وترجيح المؤرخ بمقارب بوفاته صلى الله عليه وسلم على غير المؤرخ .
قال الرازي : والترجيح بهذه الستة أي إفادتها للرجحان غير قوية .
القسم الخامس : الترجيح بلفظ الخبر ، وذلك بوجوه :
أحدها إلى الخامس والثلاثين : ترجيح الخاص على العام ، والعام الذي لم يخصص على المخصص ؛ لضعف دلالته بعد التخصيص على باقي أفراده ، والمطلق على ما ورد على سبب ، والحقيقة على المجاز ، والمجاز المشبه للحقيقة على غيره ، والشرعية على غيرها ، والعرفية على اللغوية ، والمستغني على الإضمار . وما يقبل فيه اللبس ، وما اتفق على وضعه لمسماه ، والمومي للعلة ، والمنطوق ، ومفهوم الموافقة على المخالفة ، والمنصوص على حكمه مع تشبيهه بمحل آخر ، والمستفاد عمومه من الشرط والجزاء على النكرة المنفية ، أو من الجمع المعرف على ( من ) و ( ما ) ، أو من الكل ؛ وذلك [ ص: 659 ] من الجنس المعرف ، وما خطابه تكليفي على الوضعي ، وما حكمه معقول المعنى ، وما قدم فيه ذكر العلة ، أو دل الاشتقاق على حكمه ، والمقارن للتهديد ، وما تهديده أشد ، والمؤكد بالتكرار والفصيح ، وما بلغة قريش ، وما دل على المعنى المراد بوجهين فأكثر ، وبغير واسطة ، وما ذكر معه معارضة ، كـ ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ) ، والنص والقول ، وقول قارنه العمل ، أو تفسير الراوي ، وما قرن حكمه بصفة على ما قرن باسم ، وما فيه زيادة .
القسم السادس : الترجيح بالحكم وذلك بوجوه :
أحدها : تقديم الناقل على البراءة الأصلية على المقرر لها .
وقيل : عكسه .
ثانيها : تقديم الدال على التحريم على الدال على الإباحة والوجوب .
ثالثها : تقديم الأحوط .
رابعها : تقديم الدال على نفي الحد .
القسم السابع : الترجيح بأمر خارجي كتقديم ( ما ) وافقه ظاهر القرآن ، أو سنة أخرى ، أو ما قبل الشرع ، أو القياس ، أو عمل الأمة أو الخلفاء الراشدين ، أو معه مرسل آخر ، أو منقطع ، أو لم يشعر بنوع قدح في الصحابة ، أو له نظير متفق على حكمه ، أو اتفق على إخراجه الشيخان .
فهذه أكثر من مائة مرجح ، وثم مرجحات أخر لا تنحصر ومثارها غلبة الظن .
[ ص: 660 ] فوائد
الأولى : منع بعضهم الترجيح في الأدلة ، قياسا على البينات ، وقال : إذا تعارضا لزم التخيير أو الوقف .
وأجيب : بأن مالكا يرى ترجيح البينة على البينة ، ومن لم ير ذلك يقول : البينة مستندة إلى توقيفات تعبدية ؛ ولهذا لا تقبل إلا بلفظ الشهادة .
الثانية : إن لم يوجد مرجح لأحد الحديثين توقف عن العمل به حتى يظهر .
الثالثة : التعارض بين الخبرين إنما هو لخلل في الإسناد بالنسبة إلى ظن المجتهد ، وأما في نفس الأمر فلا تعارض .
الرابعة : ما سلم من المعارضة فهو محكم ، وقد عقد له الحاكم في " علوم الحديث " بابا وعده من الأنواع . وكذا شيخ الإسلام في " النخبة " .