النوع الثامن والعشرون
معرفة
آداب طالب الحديث
وقد اندرج طرف منه في ضمن ما تقدم .
فأول ما عليه
تحقيق الإخلاص ، والحذر من أن يتخذه وصلة إلى شيء من الأغراض الدنيوية .
روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة رضي الله عنه أنه قال : " من طلب الحديث لغير الله مكر به " .
وروينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري رضي الله عنه قال : " ما أعلم عملا هو أفضل من طلب الحديث لمن أراد الله به " . وروينا نحوه عن
ابن المبارك رضي الله عنه .
ومن أقرب الوجوه في إصلاح النية فيه ما روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=13602أبي عمرو إسماعيل بن نجيد أنه سأل
nindex.php?page=showalam&ids=11966أبا جعفر أحمد بن حمدان ، وكانا عبدين صالحين ، فقال له : " بأي نية أكتب الحديث ؟ " فقال : " ألستم
[ ص: 246 ] تروون أن عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ؟ " قال : " نعم " ، قال : " فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأس الصالحين " .
وليسأل الله تبارك وتعالى التيسير ، والتأييد ، والتوفيق ، والتسديد ،
وليأخذ نفسه بالأخلاق الزكية ، والآداب المرضية ، فقد روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=12063أبي عاصم النبيل ، قال : " من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدين ، فيجب أن يكون خير الناس " .
وفي
السن الذي يستحب فيه الابتداء بسماع الحديث ، وبكتبته اختلاف ، سبق بيانه في أول النوع الرابع والعشرين .
وإذا أخذ فيه فليشمر عن ساق جهده ، واجتهاده ، ويبدأ بالسماع من أسند شيوخ مصره ، ومن الأولى فالأولى من حيث العلم ، أو الشهرة ، أو الشرف ، أو غير ذلك .
وإذا فرغ من سماع العوالي والمهمات التي ببلده فليرحل إلى غيره .
روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين أنه قال : " أربعة لا تؤنس منهم رشدا : حارس الدرب ، ومنادي القاضي ، وابن المحدث ، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث " .
وروينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه قيل له : " أيرحل
[ ص: 247 ] الرجل في طلب العلو ؟ " فقال : " بلى ، والله شديدا ، لقد كان
علقمة ،
والأسود يبلغهما الحديث عن
عمر رضي الله عنه ، فلا يقنعهما حتى يخرجا إلى
عمر رضي الله عنه فيسمعانه منه " ، والله أعلم .
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12358إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال : " إن الله تعالى يدفع البلاء عن هذه الأمة برحلة أصحاب الحديث " .
ولا يحملنه الحرص ، والشره على التساهل في السماع ، والتحمل ، والإخلال بما يشترط عليه في ذلك ، على ما تقدم شرحه .
وليستعمل ما يسمعه من الأحاديث الواردة بالصلاة والتسبيح وغيرهما من الأعمال الصالحة ، فذلك زكاة الحديث ، على ما روينا عن العبد الصالح
nindex.php?page=showalam&ids=15531بشر بن الحارث الحافي رضي الله عنه ، وروينا عنه أيضا أنه قال : " يا أصحاب الحديث ، أدوا زكاة هذا الحديث ، اعملوا من كل مائتي حديث بخمسة أحاديث " .
وروينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=16717عمرو بن قيس الملائي رضي الله عنه ، قال : " إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به ولو مرة تكن من أهله " .
وروينا عن
وكيع ، قال : " إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به " .
وليعظم شيخه ، ومن يسمع منه ، فذلك من إجلال الحديث ، والعلم ، ولا يثقل عليه ، ولا يطول بحيث يضجره ، فإنه يخشى على
[ ص: 248 ] فاعل ذلك أن يحرم الانتفاع ، وقد روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري أنه قال : " إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب " ، ( والله أعلم ) .
ومن ظفر من الطلبة بسماع شيخ فكتمه غيره ، لينفرد به عنهم ، كان جديرا بأن لا ينتفع به ، وذلك من اللؤم الذي يقع فيه جهلة الطلبة الوضعاء ، ومن
أول فائدة طلب الحديث الإفادة ، روينا عن
مالك رضي الله عنه أنه قال : " من بركة الحديث إفادة بعضهم بعضا " .
وروينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=12418إسحاق بن إبراهيم راهويه أنه قال لبعض من سمع منه في جماعة : " انسخ من كتابهم ما قد قرأت ، فقال : إنهم لا يمكنونني ، قال : إذا والله لا يفلحون ، قد رأينا أقواما منعوا هذا السماع ، فوالله ما أفلحوا ، ولا أنجحوا " .
قلت : وقد رأينا نحن أقواما منعوا السماع فما أفلحوا ، ولا أنجحوا ، ونسأل الله العافية ، والله أعلم .
ولا يكن ممن يمنعه الحياء ، أو الكبر عن كثير من الطلب . وقد روينا عن
مجاهد رضي الله عنه أنه قال : " لا يتعلم مستح ولا مستكبر " ، وروينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ، وابنه رضي الله عنهما أنهما قالا : " من رق وجهه رق علمه " .
ولا يأنف من أن يكتب عمن دونه ما يستفيده منه . روينا عن
[ ص: 249 ] nindex.php?page=showalam&ids=17277وكيع بن الجراح رضي الله عنه أنه قال : " لا ينبل الرجل من أصحاب الحديث حتى يكتب عمن هو فوقه وعمن هو مثله ، وعمن هو دونه " ، وليس بموفق من ضيع شيئا من وقته في الاستكثار من الشيوخ ، لمجرد اسم الكثرة وصيتها .
وليس من ذلك قول
nindex.php?page=showalam&ids=11970أبي حاتم الرازي : " إذا كتبت فقمش ، وإذا حدثت ففتش " .
وليكتب ، وليسمع ما يقع إليه من كتاب أو جزء على التمام ، ولا ينتخب . فقد قال
ابن المبارك رضي الله عنه : " ما انتخبت على عالم قط إلا ندمت " . وروينا عنه أنه قال : " لا ينتخب على عالم إلا بذنب " ، وروينا - أو بلغنا - عن
nindex.php?page=showalam&ids=17336يحيى بن معين أنه قال : " سيندم المنتخب في الحديث حين لا تنفعه الندامة " .
فإن ضاقت به الحال عن الاستيعاب ، وأحوج إلى الانتقاء ، والانتخاب ، تولى ذلك بنفسه إن كان أهلا مميزا ، عارفا بما يصلح للانتقاء ، والاختيار ، وإن كان قاصرا عن ذلك استعان ببعض الحفاظ لينتخب له . وقد كان جماعة من الحفاظ متصدين للانتقاء على الشيوخ ، والطلبة تسمع وتكتب بانتخابهم ، منهم
إبراهيم بن أرمة الأصبهاني ،
nindex.php?page=showalam&ids=16517وأبو عبد الله الحسين بن محمد المعروف بعبيد العجل ،
nindex.php?page=showalam&ids=14269وأبو الحسن الدارقطني ،
nindex.php?page=showalam&ids=14004وأبو بكر الجعابي ، في آخرين .
[ ص: 250 ] وكانت العادة جارية برسم الحافظ علامة في أصل الشيخ على ما ينتخبه ، فكان
النعيمي أبو الحسن يعلم بصاد ممدودة ،
وأبو محمد الخلال بطاء ممدودة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14924وأبو الفضل الفلكي بصورة همزتين ، وكلهم يعلم بحبر في الحاشية اليمنى من الورقة ، وعلم
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في الحاشية اليسرى بخط عريض بالحمرة ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=15113أبو القاسم اللالكائي الحافظ يعلم بخط صغير بالحمرة على أول إسناد الحديث ، ولا حجر في ذلك ولكل الخيار .
ثم
لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث ، وكتبه دون معرفته ، وفهمه ، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل ، وبغير أن يحصل في عداد أهل الحديث ، بل لم يزد على أن صار من المتشبهين المنقوصين ، المتحلين بما هم منه عاطلون .
قلت : أنشدني
nindex.php?page=showalam&ids=14524أبو المظفر بن الحافظ أبي سعد السمعاني رحمه الله - لفظا - بمدينة
مرو ، قال : أنشدنا والدي - لفظا ، أو قراءة عليه - قال : أنشدنا
محمد بن ناصر السلامي من لفظه ، قال : أنشدنا
الأديب الفاضل فارس بن الحسين لنفسه :
يا طالب العلم الذي ذهبت بمدته الروايه
كن في الرواية ذا العنا
ية بالرواية والدرايه
وارو القليل وراعه
فالعلم ليس له نهايه
[ ص: 251 ] وليقدم
العناية بالصحيحين ، ثم بسنن
أبي داود ، وسنن
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي ، وكتاب
الترمذي ، ضبطا لمشكلها ، وفهما لخفي معانيها ، ولا يخدعن عن كتاب السنن الكبير
للبيهقي ، فإنا لا نعلم مثله في بابه .
ثم بسائر ما تمس حاجة صاحب الحديث إليه من كتب المساند كمسند
أحمد ، ومن كتب الجوامع المصنفة في الأحكام المشتملة على المسانيد وغيرها ، وموطأ
مالك هو المقدم منها .
ومن كتب علل الحديث ، ومن أجودها كتاب العلل عن
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد بن حنبل ، وكتاب العلل عن
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني .
ومن كتب معرفة الرجال وتواريخ المحدثين ، ومن أفضلها ( تاريخ
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري الكبير ) و ( كتاب الجرح والتعديل )
nindex.php?page=showalam&ids=16328لابن أبي حاتم .
ومن كتب الضبط لمشكل الأسماء ، ومن أكملها " كتاب الإكمال
nindex.php?page=showalam&ids=13484 " لأبي ناصر بن ماكولا .
وليكن كلما مر به اسم مشكل ، أو كلمة من حديث مشكلة ، بحث عنها ، وأودعها قلبه ، فإنه يجتمع له بذلك علم كثير في يسر .
وليكن تحفظه للحديث على التدريج قليلا قليلا مع الأيام والليالي ، فذلك أحرى بأن يمتع بمحفوظه .
وممن ورد ذلك عنه من حفاظ الحديث المتقدمين :
شعبة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13382وابن علية ،
ومعمر .
وروينا عن
معمر قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري يقول : " من
[ ص: 252 ] طلب العلم جملة فاته جملة ، وإنما يدرك العلم حديثا ، وحديثين " .
وليكن الإتقان من شأنه ، فقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=16349عبد الرحمن بن مهدي : " الحفظ الإتقان " .
ثم إن
المذاكرة بما يتحفظه من أقوى أسباب الإمتاع به ، روينا عن
nindex.php?page=showalam&ids=16588علقمة النخعي قال : " تذاكروا الحديث ، فإن حياته ذكره " . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=12354إبراهيم النخعي قال : " من سره أن يحفظ الحديث ، فليحدث به ، ولو أن يحدث به من لا يشتهيه " .