معنى الإفراز فيما لا يتفاوت أظهر كالمكيل والموزون ، ومعنى المبادلة فيما يتفاوت أظهر كالحيوان والعقار ، إلا أنه يجبر الممتنع منهما على القسمة إذا اتحد الجنس ، ولا يجبر عند اختلاف الجنس ، ولو اقتسموا بأنفسهم جاز ، ويقسم على الصبي وصيه أو وليه ، وينبغي للقاضي أن ينصب قاسما عدلا مأمونا عالما بالقسمة يرزقه من بيت المال ، أو يقدر له أجرا يأخذه من المتقاسمين ، وهو على عدد رؤوسهم ( سم ) ، ولا يجبر الناس على قاسم واحد ، ولا يترك القسام يشتركون . جماعة في أيديهم عقار طلبوا من القاضي قسمته ، وادعوا أنه ميراث لم يقسمه حتى يقيموا البينة ( ف ) على ( سم ) الوفاة وعدد الورثة ، فإن حضر وارثان فأقاما البينة على الوفاة وعدد الورثة ومعهما وارث غائب قسمه بينهم إلا أن يكون العقار في يد الغائب ، وفي الشراء لا يقسمه إلا بحضرة الجميع ، وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة .
[ ص: 331 ] وهي في الأصل : رفع الشيوع وقطع الشركة ، قال الله تعالى : ( ونبئهم أن الماء قسمة بينهم ) أي غير شائع ولا مشترك ، بل لهم يوم وللناقة يوم; ومعنى قسمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغنائم أنه أفرزها وقطع الشركة فيها ، وهذا المعنى مرعي في التبرع ، إلا أنه تارة يقع إفرزا وتمييزا للأنصباء ، وتارة مبادلة ومعاوضة على ما نبينه إن شاء الله تعالى ، وهي مشروعة بالكتاب وهو قوله تعالى : (واعلموا أنما غنمتم من شيء ) - الآية ، بين الأنصباء وهو معنى القسمة . والسنة وهو أنه - عليه الصلاة والسلام - قسم الغنائم والمواريث ، وقسم خيبر بين أصحابه ، وعلي - رضي الله عنه - نصب عبد الله بن يحيى ليقسم الدور والأرضين ويأخذ عليه الأجر ، وعليه إجماع المسلمين ، ولأن المشترك قد لا يمكنهما الانتفاع به; فمست الحاجة إلى القسمة ليصل كل واحد إلى المنفعة بملكه ، أو لأنه لا يمكنه الانتفاع إلا بالتهايؤ فيبطل عليه الانتفاع في بعض الأزمان ، فكانت القسمة متممة للمنفعة ، وقد ذكرنا أن القسمة تكون إفرازا وتكون مبادلة فنقول :
( معنى الإفراز فيما لا يتفاوت أظهر كالمكيل والموزون ) وسائر المثليات حتى كان لكل واحد أن يأخذ نصيبه بغير رضى صاحبه ومع غيبته ، ويبيعه مرابحة وتولية على نصف الثمن ، ولا [ ص: 332 ] يخلو عن معنى المبادلة أيضا ، لأن ما حصل له كان له بعضه وبعضه لشريكه ، إلا أنه جعل وصول مثل حقه إليه كوصول عين حقه لعدم التفاوت .
( ومعنى المبادلة أظهر فيما يتفاوت كالحيوان والعقار ) وكل ما ليس بمثلي حتى لا يكون لأحدهما أخذ نصيبه مع غيبة الآخر ، ولو اقتسما فليس له بيعه مرابحة ، لأن ما أخذ ليس بمثل لما ترك على صاحبه .
( إلا أنه يجبر الممتنع منهما على القسمة إذا اتحد الجنس ) كالإبل والبقر والغنم تتميما للمنفعة وتكميلا لثمرة الملك ، فإن الطالب يسأل القاضي أن يخصه بنصيبه ويمنع غيره من الانتفاع به فيجيبه القاضي إلى ذلك ؛ لأنه نصب للمصالح ودفع المظالم ، والإجبار على المبادلة جائز إذا تعلق بها حق الغير كالمشتري مع الشفيع ، والمديون يجبر على بيع ملكه لإيفاء الدين .
( ولا يجبر عند اختلاف الجنس ) كالحيوان مع العقار ، أو البقر مع الخيل ونحو ذلك ، لتعذر المعادلة فيه للتفاوت الفاحش بينهما في المقصود ، وكذلك الثياب إذا اختلفت أجناسها ، والثوبان إذا اختلفت قيمتهما .
قال : ( وينبغي للقاضي أن ينصب قاسما عدلا مأمونا عالما بالقسمة ) لأنه لا قدرة له على العمل إلا بالعلم به ، ولا اعتماد على قوله إلا بالعدالة ، ولا وثوق إلى فعله إلا بالأمانة ، ولأنه يحكم عليهم بفعله فأشبه القاضي ، فينبغي أن يكون بهذه الصفات .
قال : ( يرزقه من بيت المال ) لأن فعله يقطع المنازعة كالقضاء ، فينبغي أن يكون رزقه من بيت المال كالقاضي ، ولأنه أنفى للتهمة فكان أفضل ، ولأنه أرفق بالعامة .
قال : ( أو يقدر له أجرا يأخذه من المتقاسمين ) لأنه يعمل لهم وإنما يقدره لئلا يطلب زيادة ويشتط عليهم في الأجر .
[ ص: 333 ] قال : ( وهو على عدد رؤوسهم ) وقالا : على الأنصباء لأنها مؤونة الملك فيتقدر بقدره ، فصار كحافر بئر مشتركة ونفقة المملوك المشترك . ولأبي حنيفة أنه جزاء عمله وهو التمييز والإفراز ، ويستوي فيه القليل والكثير . بيانه أنه لا يأخذ الأجر على المساحة والمشي على الحدود ، حتى لو استعان في ذلك بأرباب الملك فله الأجر إذا قسم وميز ، وربما يكثر عمله في القليل لأن الحساب إنما يدق ويصعب عند تفاوت الأنصباء لا عند استوائهما ، بخلاف حفر البئر فإن الأجرة مقابلة بالعمل وهو نقل التراب ، ونفقة المملوك لإبقاء الملك وحاجة صاحب الكثير أكثر ، وبخلاف الكيلي والوزني لأنه أجر عمله ، ولهذا لو استعان في ذلك بأرباب الملك لا أجر له ، وكيل الكثير أكثر من كيل القليل قطعا . وروي عن أبي حنيفة أن الأجر على الطالب لأنه هو المنتفع به دون الممتنع لتضرره به .
قال : ( ولا يجبر الناس على قاسم واحد ) معناه إذا لم يقدر أجره لأنه يتعدى أجر مثله ويتحكم في طلب الزيادة وأنه ضرر .
قال : ( ولا يترك القسام يشتركون ) لأن عند الاشتراك لا يخافون الفوت فيتغالون في الأجر ، وعند عدم الاشتراك يخاف الفوت بسبق غيره فيبادر إلى العمل فيرخص الأجر .
قال : ( جماعة في أيديهم عقار طلبوا من القاضي قسمته ، وادعوا أنه ميراث لم يقسمه حتى يقيموا البينة على الوفاة وعدد الورثة ) وقالا : يقسمه باعترافهم ، ويذكر في كتاب القسمة أنه قسمه بقولهم ، ولا يحتاج إلى بينة لأن اليد دليل الملك ، والظاهر صدقهم ولا منازع لهم كما في غير العقار; وكما إذا ادعوا في العقار الشراء أو مطلق الملك ، فإنه يقسمه في هذه الصور بالإجماع; وكذا لو كان في الورثة كبير غائب أو صغير والدار في أيدي الكبار الحضور يقسمها بقولهم ، ويعزل نصيب الصغير والغائب إلا أن يكون العقار في يد الغائب أو الصبي ، فلا بد من حضورهما لئلا يكون قضاء على الغائب والصبي ، وإنما يذكر أنه قسمها بقولهم لئلا يتعداهم الحكم .
ولأبي حنيفة أن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت ، لأن الزوائد المتولدة منها تحدث على ملكه حتى يقضي منه ديونه وتنفذ وصاياه ، فلا يجوز للقاضي قطع حكم ملكه إلا ببينة ، بخلاف المنقول لأنه يحتاج إلى الحفظ ، فكانت قسمته للحفظ والعقار محفوظ بنفسه ، وبخلاف المشتري لأن ملك البائع انقطع عن المبيع فلم تكن القسمة قضاء على الغير ، وكذا إذا [ ص: 334 ] أطلقوا الملك لأنهم ما اعترفوا به لغيرهم . وفي الجامع الصغير شرط إقامة البينة عند الإطلاق ، لأن قسمة الحفظ لا يحتاج إليها في العقار ، وقسمة الملك تفتقر إلى ثبوته فاحتاج إلى البينة .
( وفي الشراء لا يقسمه إلا بحضرة الجميع ) والفرق أن ملك الوارث ملك خلافة حتى ينتقل إليه خيار العيب والتعيين فيما اشتراه المورث أو باعه فيكون أحدهما خصما عن الميت فيما في يده والآخر عن نفسه ، وفي الشراء ملك مبتدأ حتى ليس له الرد بالعيب على بائع بائعه ، ولا يصلح الحاضر خصما عن الغائب فافترقا .
قال : ( وإن حضر وارث واحد لم يقسم وإن أقام البينة ) لأن الواحد لا يكون خصما ومقاسما من جهتين ولا بد من حضور خصمين .