[ ص: 349 ] وإذا رفع إليه قضاء قاض أمضاه ، إلا أن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع ، ولا يجوز قضاؤه لمن لا تقبل شهادته له ، ويجوز لمن قلده وعليه; وإذا علم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها جاز له أن يقضي به . والقضاء بشهادة الزور ينفذ ظاهرا وباطنا ( سم ) في العقود ، والفسوخ : كالنكاح ، والطلاق والبيع ، وكذلك الهبة ، والإرث .
فصل
( وإذا رفع إليه قضاء قاض أمضاه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع ) وأصله أن القاضي إذا كان ممن يجوز قضاؤه فقضى بقضية يسوغ فيها الاجتهاد لم يجز لأحد من القضاة نقضه ، لأن الاجتهاد الثاني مثله والأول ترجيح بالسبق لاتصال القضاء به . وروي أن شريحا قضى بقضاء خالف فيه عمر وعليا - رضي الله عنهما ، فلم يفسخاه لوقوعه من قاض جائز [ ص: 350 ] الحكم فيما يسوغ فيه الاجتهاد . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قضى في الجد بقضايا مختلفة ، فقيل له ، فقال ذاك على ما قضينا ، وهذا على ما نقضي ، ولم يفسخ الأول; ولا اجتهاد مع الكتاب ولا مع السنة المشهورة ، إذ لا اجتهاد إلا عند عدمهما ، لما تقدم من حديث معاذ ، ولا مع إجماع الجمهور ؛ لأنه خلاف وليس باختلاف ، والمراد اختلاف الصدر الأول .
قال : ( ويجوز لمن قلده وعليه ) لأنه نائب عن المسلمين لا عنه ، ولهذا لا ينعزل بموته .
قال : ( وإذا علم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها جاز له أن يقضي به ) لأن علمه كشهادة الشاهدين وبل أولى ؛ لأن اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة والسماع ، والحاصل بالشهادة غلبة الظن ، والإجماع على أن قوله على الانفراد مقبول فيما ليس خصما فيه ، ومتى قال حكمت بكذا نفذ حكمه . وأما ما علمه قبل ولايته أو في غير محل ولايته لا يقضي به عند أبي حنيفة رضي الله عنه ، نقل ذلك عن عمر وشريح رضي الله عنهما . وقال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - : يقضي كما في حال ولايته ومحلها لما مر ، وجوابه أنه في غير مصره وغير ولايته شاهد لا حاكم ، وشهادة الفرد لا تقبل ، وصار كما إذا علم ذلك بالبينة العادلة ثم ولي القضاء فإنه لا يعمل بها .
وأما الحدود فلا يقضي بعلمه فيها لأنه خصم فيها ، لأنها حق الله تعالى وهو نائبه إلا في حد القذف فإنه يعمل بعلمه لما فيه من حق العبد ، وإلا في السكر إذا وجد سكران ، أو من به أمارات السكر فإنه يعزره .
قال : ( والقضاء بشهادة الزور ينفذ ظاهرا وباطنا في العقود والفسوخ كالنكاح ، والطلاق ، والبيع ، وكذلك الهبة ، والإرث ) وقالا : لا ينفذ باطنا .
وصورته شهد شاهدان بالزور بنكاح امرأة لرجل فقضى بها القاضي نفذ عنده حتى حل للزوج وطؤها خلافا لهما; ولو شهدا بالزور على رجل أنه طلق امرأته بائنا فقضى القاضي بالفرقة [ ص: 351 ] ثم تزوجها آخر جاز; وعندهما إن جهل الزوج الثاني ذلك حل له وطؤها اتباعا للظاهر ؛ لأنه لا يكلف علم الباطن وإن علم بأن كان أحد الشاهدين لا يحل ، ولو وطئها الزوج الأول كان زانيا ويحد .
وقال محمد : يحل له وطؤها ، وقال أبو يوسف : لا يحل له ؛ لأن قول أبي حنيفة أورث شبهة فيحرم الوطء احتياطا ، ولا ينفذ في معتدة الغير ومنكوحته بالإجماع ؛ لأنه لا يمكن تقديم النكاح على القضاء ، وفي الأجنبية أمكن ذلك فيقدم تصحيحا له قطعا للمنازعة ، وينفذ ببيع الأمة عنده حتى يحل للمشتري وطؤها ، وينفذ في الهبة والإرث حتى يحل للمشهود له أكل الهبة والميراث ، وروي عنه أنه لا ينفذ فيهما . لهما قوله - عليه الصلاة والسلام - : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10346567إنكم لتختصمون إلي ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، وإنما أنا بشر أقضي بما أسمع ، فمن قضيت له من مال أخيه شيئا بغير حقه فإنما أقطع له قطعة من النار " وأنه عام فيعم جميع الحقوق والعقود والفسوخ وغير ذلك ، فينبغي أن يكون الحكم في الباطن كهو عند الله تعالى ، أما الظاهر فالحكم لازم على ما أنفذه القاضي .
قال - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر " وله ما روي : أن رجلا خطب امرأة وهو دونها في الحسب فأبت أن تتزوجه ، فادعى أنه تزوجها ، وأقام شاهدين عند علي رضي الله عنه ، فحكم عليها بالنكاح ، فقالت : إني لم أتزوجه وإنهم شهود زور فزوجني منه ، فقال علي - رضي الله عنه - : شاهداك زوجاك وأمضى عليها النكاح ، ولأنه قضى بأمر الله تعالى بحجة شرعية فيما له ولاية الإنشاء فيجعل إنشاء تحرزا عن الحرام ، وحديثهما في المال صريح ونحن نقول به ، فإن قضاء القاضي في الأملاك المرسلة لا ينفذ بشهادة الزور بهذا الحديث ، ولقوله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ) وروي أنها نزلت فيه ؛ ولأن القاضي لا يملك إثبات الملك بدون السبب ، فإنه لا يملك دفع مال زيد إلى عمرو .
أما العقود والفسوخ فإنه يملك إنشاءهما فإنه يملك بيع أمة زيد وغيرها من عمرو حال غيبته [ ص: 352 ] وخوف الهلاك فإنه يبيعه للحفظ ، وكذلك لو مات ولا وصي له ، ويملك إنشاء النكاح على الصغير والصغيرة والفرقة في العنين وغير ذلك ، فثبت أن له ولاية الإنشاء في العقود والفسوخ ، فيجعل القضاء إنشاء احترازا عن الحرام ، ولا يملك ذلك في الأملاك المرسلة بغير أسباب فتعذر جعله إنشاء فبطل ، ثم نقول : لو لم ينفذ باطنا ، فلو قضى القاضي بالطلاق لبقيت حلالا للزوج الأول باطنا وللثاني ظاهرا; ولو ابتلي الثاني بمثل ما ابتلي به الأول حلت للثالث أيضا ، وهكذا رابع وخامس ، فتحل للكل في زمان واحد ، وفيه من الفحش ما لا يخفى; ولو قلنا بنفاذه باطنا لا تحل إلا لواحد ولا فحش فيه .