وهي أمانة إذا هلكت من غير تعد لم يضمن ، وله أن يحفظها بنفسه ، ومن في عياله وإن نهاه ، وليس له أن يحفظها بغيرهم إلا أن يخاف الحريق فيسلمها إلى جاره ، أو الغرق فيلقيها إلى سفينة أخرى ، فإن خلطها بغيرها حتى لا تتميز ضمنها ، وكذا إن أنفق بعضها ثم رد عوضه وخلطه بالباقي ، وإن اختلط بغير صنعه فهو شريك ، ولو تعدى فيها بالركوب أو اللبس أو الاستخدام أو أودعها ثم زال التعدي لم يضمن ، ولو أودعها فهلكت عند الثاني فالضمان على الأول ( سم ) فإن طلبها صاحبها فجحدها ثم عاد اعترف ضمن ، وللمودع أن يسافر بالوديعة ، وإن كان لها حمل ومئونة ما لم ينهه إذا كان الطريق آمنا ، ولو أودعا عند رجل مكيلا أو موزونا ثم حضر أحدهما يطلب نصيبه لم يؤمر بالدفع إليه ما لم يحضر الآخر ، فإن قال المودع : أمرتني أن أدفعها إلى فلان وكذبه المالك ضمن إلا أن يقيم البينة على ذلك أو ينكل المالك عن اليمين ، ولو أودع عند رجلين شيئا مما يقسم اقتسماه وحفظ كل منهما نصفه ، وإن كان لا يقسم حفظه أحدهما بأمر الآخر ، ولو قال احفظها في هذا البيت فحفظها في بيت آخر في الدار لم يضمن ، ولو خالفه في الدار ضمن ، ولو رد الوديعة إلى دار مالكها ولم يسلمها إليه ضمن .
وهو عقد مشروع أمانة لا غرامة ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " ليس على المستودع غير المغل ضمان ، ولا على المستعير غير المغل ضمان ) ويجب حفظها على المودع إذا قبلها ; لأنه التزم الحفظ بالعقد ، والوديعة تارة تكون بصريح الإيجاب والقبول وتارة بالدلالة ، فالصريح قوله أودعتك وقول الآخر قبلت ، ولا يتم في حق الحفظ إلا بذلك ، ويتم بالإيجاب وحده في حق الأمانة ، حتى لو قال للغاصب أودعتك المغصوب برئ عن الضمان وإن لم يقبل ; لأن صيرورة المال أمانة حكم يلزم صاحب المال لا غير فيثبت به وحده ; فأما وجوب الحفظ فيلزم المودع فلا بد من قبوله ، والدلالة إذا وضع عنده متاعا ولم يقل شيئا ، أو قال هذا وديعة عندك [ ص: 34 ] وسكت الآخر صار مودعا حتى لو غاب المالك ثم غاب الآخر فضاع ضمن ; لأنه إيداع وقبول عرفا .
قال : ( وله أن يحفظها بنفسه ومن في عياله وإن نهاه ) ; لأنه التزم أن يحفظها بما يحفظ به ماله ، وذلك بالحرز واليد . أما الحرز فداره ومنزله وحانوته ، سواء كان ملكا له أو إجارة أو إعارة . وأما اليد فيده وزوجته وزوجها وأمته وعبده وأجيره الخاص وولده الكبير إن كان في عياله على ما مر في الرهن ; ولأن المودع رضي بذلك لأنه يعلم أن المودع لا بد له من الخروج لمعاشه وأداء فرائضه ، ولا يمكنه استصحاب الوديعة معه فيتركها في منزله عند من في عياله فلم يكن له بد من ذلك ، ولهذا لا يصح نهيه لو قال لا تدفعها إلى شخص عينه من عياله ممن لا بد له منه ، فإن لم يكن له عيال سواه لم يضمن ، وإن كان له سواه يضمن ; لأن من العيال من لا يؤتمن على المال .
قال : ( وليس له أن يحفظها بغيرهم ) ; لأنه ما رضي بحفظ غيرهم ، فإن الناس يتفاوتون في الأمانات وصار كالوكيل والمضارب ليس له أن يوكل ولا يضارب لما تقدم أن الشيء لا يتضمن مثله .
قال : ( إلا أن يخاف الحريق فيسلمها إلى جاره ، أو الغرق فيلقيها إلى سفينة أخرى ) ; لأن الحفظ تعين بذلك ، لكن لا يصدق عليه إلا ببينة ; لأنه يدعي سببا لإسقاط الضمان فيحتاج إلى بينة .
والخلط على وجوه : أحدها الجنس بالجنس كالحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والدراهم البيض بالبيض ، والسود بالسود . والثاني خلط الجنس بغيره كالحنطة بالشعير ، والخل بالزيت ونحوهما . والثالث خلط المائع بجنسه ; فعند أبي حنيفة هو استهلاك في الوجوه كلها [ ص: 35 ] فيضمنها وينقطع حق المودع عنها ، وعندهما كذلك في الوجه الثاني ; لأنه استهلاك صورة ومعنى ; والأول عندهما إن شاء شاركه فيها ، وإن شاء ضمنه ; لأنه إن تعذر أخذ عين حقه لم يتعذر المعنى فكان استهلاكا من وجه دون وجه فيختار أيهما شاء . وأما الثالث فعند أبي يوسف : يجعل الأقل تبعا للأكثر اعتبارا للغالب . وعند محمد : هو شركة بينهما بكل حال ; لأن الجنس لا يغلب الجنس عنده على ما عرف من أصله في الرضاع ، وخلط الدراهم بالدراهم ، والدنانير بالدنانير إذابة من الوجه الثالث ; لأنه يصير مائعا بالإذابة . وجه قول أبي حنيفة أنه استهلاك من كل وجه لتعذر وصوله إلى عين حقه ، والقسمة مترتبة على الشركة فلا تكون موجبة لها ، فلو أبرأ المودع الخالط برئ أصلا ، وعندهما يبرأ من الضمان فتتعين الشركة في المخلوط .
قال : ( ولو اختلط بغير صنعه فهو شريك ) بالاتفاق لأنه لا صنع له فيه فلا ضمان عليه فتتعين الشركة .
قال : ( ولو تعدى فيها بالركوب أو اللبس أو الاستخدام أو أودعها ثم زال التعدي لم يضمن ) لزوال الموجب للضمان ، ويد الأمانة باقية بإطلاق الأمر الأول ; لأنه لم يرتفع من جهة صاحب الحق ، لكن ارتفع حكمه لوجود ما ينافيه ثم زال المنافي فعاد حكم الأمر الأول .
( ولو أودعها فهلكت عند الثاني فالضمان على الأول ) خاصة . وقالا : يضمن أيهما شاء ; لأن الأول خالف لما بينا ، والثاني تعدى حيث قبض ملك غيره بغير أمره ، فإن ضمن الأول لا يرجع على الثاني ; لأنه ملكه بالضمان مستندا فيكون مودعا ملكه ، وإن ضمن الثاني رجع على الأول ; لأنه إنما لحقه ذلك بسببه . ولأبي حنيفة : أن التفريط إنما جرى من الأول ; لأن مجرد الدفع لا يوجب الضمان حتى لو هلكت والأول حاضر لا يضمن ، فإذا غاب الأول فقد ترك الحفظ فيضمن والثاني لم يترك .
قال : ( فإن طلبها صاحبها فجحدها ثم عاد اعترف ضمن ) ; لأن بالطلب ارتفع عقد الوديعة فصار غاصبا بعده ، وبالاعتراف بعد ذلك لم يوجد الرد إلى نائب المالك بخلاف مسألة المخالفة ثم الموافقة ; لأن يد الوديعة لم ترتفع فوجد الرد إلى يد النائب ، ولو جحدها عند غير المالك لم [ ص: 36 ] يضمن . وقال زفر : يضمن لأنه جحد الوديعة . ولنا أنه من باب الحفظ لما فيه من قطع الأطماع عنها ، ولأنه ربما يخاف عليها ممن جحدها عنده ، وهذا المعنى معدوم إذا جحدها عند المالك ، فإن جحدها ثم جاء بها فقال له صاحبها دعها وديعة عندك فهلكت ، فإن أمكنه أخذها فلم يأخذها لم يضمن لأنه إيداع جديد كأنه أخذها ثم أودعها ، وإن لم يمكنه أخذها ضمن لأنه لم يتم الرد .
قال : ( وللمودع أن يسافر بالوديعة وإن كان لها حمل ومئونة ما لم ينهه إذا كان الطريق آمنا ) لإطلاق الأمر ، والغالب السلامة إذا كان الطريق آمنا ، ولهذا يملكه الوصي والأب ، بخلاف الركوب في البحر ; لأن الغالب فيه العطب .
وقالا : ليس له ذلك إلا إذا كان له حمل ومئونة ; لأن الظاهر عدم الرضا لما يلزمه من مئونة الحمل . قلنا يلزمه ذلك ضرورة امتثال أمره ، فلا اعتبار به سيما إذا كان من أهل العمود ، ولا بد له من رحلة الشتاء والصيف .
قال : ( ولو أودعا عند رجل مكيلا أو موزونا ثم حضر أحدهما يطلب نصيبه لم يؤمر بالدفع إليه ما لم يحضر الآخر ) وقالا : يدفع إليه نصيبه لأنه سلمه إليه فيؤمر بالدفع إليه عند الطلب لأنه ملكه حتى كان له أخذه كالدين المشترك ، وله أن نصيبه في المشاع ولا يمكن دفعه إليه ; لأن الدفع يقع في المعين وهو غير المشاع ، وإذا لم يمكن دفعه إليه كيف يؤمر به ، وولاية الأخذ لا تقتضي جواز الدفع . ألا ترى أن المديون لو كان له وديعة عند رجل من جنس الدين فلرب الدين أخذها ، ولا يجوز للمودع الدفع إليه . وأما الدين المشترك فلأنه يؤديه المديون من مال نفسه لما عرف ، ولا اعتبار بضرر الحاضر لأنه لحقه بصنعه حيث أودعه مشاعا ، وغير المكيل والموزون لا يدفع إليه نصيبه بالإجماع . وذكر محمد الخلاف مطلقا والأول أصح ; لأنه لو كان في يد أحدهما وغاب فليس للحاضر أخذ نصيبه فمن المودع أولى .
[ ص: 37 ] قال : ( ولو أودع عند رجلين شيئا مما يقسم اقتسماه وحفظ كل منهما نصفه ، وإن كان لا يقسم حفظه أحدهما بأمر الآخر ) وقالا : لأحدهما أن يحفظه بأمر الآخر في المسألتين لأنه رضي بأمانتهما ، فكان لأحدهما أن يسلمها إلى الآخر كالمسألة الثانية ، وله أن الدافع أودع نصفه بغير أمر المودع فيضمنه ، وهذا لأنه إنما رضي بأمانتهما فكان رضي بأمانة كل واحد منهما في النصف ; لأن إضافة الفعل إليهما تقتضي التبعيض كالتمليكات ، إلا أنا جوزناه فيما لا يقسم ضرورة عدم التجزي وعدم إمكان اجتماعهما عليها ، ولأنه لما لم يمكن قسمتها ولا الاجتماع عليها دائما كان راضيا بذلك دلالة ، وعلى هذا الوكيلان والوصيان والمرتهنان والعدلان في الرهن والمستبضعان .
قال : ( ولو خالفه في الدار ضمن ) ; لأن الدور تختلف في الحرز فكان مفيدا .
قال : ( ولو رد الوديعة إلى دار مالكها ولم يسلمها إليه ضمن ) ; لأن المالك ما رضي بدفعها إلى داره ولا إلى من في عياله ظاهرا إذ لو رضي بهم لما أودعها ، ولو وضع الثياب في الحمام ولم يقل شيئا ودخل الحمام ينظر إن كان في الحمام ثيابي يحفظ الثياب فالضمان عليه دون الحمامي ; لأنه استودعه دلالة ، وإن لم يكن ضمن الحمامي ، ولو قال للحمامي : أين أضع الثياب ؟ فأشار إلى مكان ، يضمن الحمامي دون الثيابي لأن الحمامي صار مودعا ، ولو وضع الثياب بمحضر من الحمامي فخرج آخر ولبسها والحمامي لا يدري أنها ثيابه أم لا ضمن الحمامي ، وإن نام الحمامي فسرقت الثياب إن نام قاعدا لم يضمن لأنه لم يترك الحفظ ، وإن نام مضطجعا ضمن . والخان كالحمام ، والدابة كالثياب ، والخاني كالحمامي .
قام واحد من أهل المجلس وترك كتابه أو متاعه فالباقون مودعون حتى لو تركوه فهلك ضمنوا ; فإن قام واحد بعد واحد فالضمان على آخرهم لأنه تعين حافظا .