وتصح بالإيجاب والقبول والقبض ، فإن قبضها في المجلس بغير إذنه جاز ، وبعد الافتراق يفتقر إلى إذنه ، وإن كانت في يده ملكها بمجرد الهبة ، وهبة الأب لابنه الصغير تتم بمجرد العقد ، ويملك الصغير الهبة بقبض وليه وأمه وبقبضه بنفسه وتنعقد الهبة بقوله : وهبت ونحلت وأعطيت وأطعمتك هذا الطعام وأعمرتك ، وحملتك على هذه الدابة إذا نوى الهبة ، وكسوتك هذا الثوب ، وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة ، وفيما يقسم لا تجوز ( ف ) ، فإن قسم وسلم جاز كسهم في دار ، واللبن في الضرع ، والصوف على الظهر ، والتمر على النخل ، والزرع في الأرض ، ولو وهبه دقيقا في حنطة ، أو سمنا في لبن ، أو دهنا في سمسم فاستخرجه وسلمه لا يجوز ، ولو وهب اثنان من واحد جاز ، وبالعكس لا يجوز ( سم ) ولو تصدق على فقيرين جاز ، وعلى غنيين لا يجوز ، ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء .
وهي العطية الخالية عن تقدم الاستحقاق ، يقال : وهبته ووهبت منه ، قال - تعالى - : ( يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ) والاتهاب : قبول الهبة ، ولهذا شرط فيها القبض ; لأن تمام الإعطاء بالدفع والتسليم .
[ ص: 65 ] قال : ( وتصح بالإيجاب والقبول والقبض ) أما الإيجاب والقبول فلأنه عقد تمليك ولا بد فيه منهما . وأما القبض فلأن الملك لو ثبت بدونه للزم المتبرع شيء لم يلتزمه وهو التسلم بخلاف الوصية ; لأنه لا إلزام للميت لعدم الأهلية ولا للوارث لعدم الملك ، ولأن الملك بالتبرع ضعيف لا يلزم ، وملك الواهب كان قويا فلا يلزم بالسبب الضعيف ، وقد روي عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفا " لا تجوز الهبة والصدقة إلا مقبوضة محوزة " ، والمراد الملك لأن الجواز ثابت بدونه إجماعا .
قال : ( فإن قبضها في المجلس بغير إذنه جاز ، وبعد الافتراق يفتقر إلى إذنه ) والقياس أن لا يجوز في الوجهين إلا بإذنه لأنه تصرف في ملك الواهب لبقاء ملكه قبل القبض . وجه الاستحسان أن التمليك بالهبة تسليط على القبض وإذن له فصار الموهوب له مأذونا في القبض ضمنا للإيجاب واقتضاء ، والإيجاب يقتصر على المجلس فكذا ما ثبت ضمنا له وكذلك الصدقة ، بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس ; لأن الثابت ضمنا لا يعارض الصريح . أو نقول : النهي رجوع والقبض كالقبول وأنه يملك الرجوع قبل القبض .
قال : ( وإن كانت في يده ) كالمودع والمستعير والمستأجر والغاصب ( ملكها بمجرد الهبة ) ; لأنه إن كان قبضها أمانة فينوب عن الهبة ، وإن كان ضمانا فهو أقوى من قبض الهبة ، والأقوى ينوب عن الأدنى ، ولو وهب من رجل ثوبا فقال قبضته صار قابضا عند أبي حنيفة ، وجعل تمكنه من القبض كالتخلية في البيع . وقال أبو يوسف : لا بد من القبض بيده ، ولو قبض الموهوب له الهبة ولم يقل قبلت صحت الهبة .
قال : ( وهبة الأب لابنه الصغير تتم بمجرد العقد ) ; لأنها في يد الأب وهو الذي يقبض له فكان قبضه كقبضه ، وكل من يعوله في هذا كالأب ، ولو وهب لابنه الكبير وهو في عياله فلا بد من قبضه ; لأنه لا ولاية له عليه فلا يقبض له .
قال : ( ويملك الصغير الهبة بقبض وليه وأمه وبقبضه بنفسه ) معناه : إذا وهبه أجنبي [ ص: 66 ] فالولي كالأب ووصيه والجد ووصيه لقيامهم مقام الأب ، وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه كاللقيط وقد بيناه ، والأم لها ولاية حفظه ، وهذا منه لأنه لا بقاء له بدون المال فاحتاجت إلى ولاية التحصيل وهذا منه . وأما قبضه بنفسه فمعناه إذا كان عاقلا لأنه تصرف نافع وهو من أهله ، ويجوز قبض الزوج لزوجته الصغيرة بعد ما زفت إليه ; لأن الأب فوض أمرها إليه وذلك بعد الزفاف لا قبله حتى يملكه بحضرة الأب .
قال : ( وتنعقد الهبة بقوله : وهبت ) ; لأنه صريح فيه ( ونحلت ) لكثرة استعمالها فيه ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " أكل ولدك نحلته هكذا " ( وأعطيت ) صريح أيضا ( وأطعمتك هذا الطعام ) لأن الإطعام صريح في الهبة إذا أضيف إلى المطعوم لأنه لا يطعمه إلا بالأكل ولا أكل إلا بالملك ، ولو قال : أطعمتك هذه الأرض . فهو عارية ; لأنها لا تطعم ( وأعمرتك ) هذا الشيء وجعلت هذه الدار لك عمرى ، قال - عليه الصلاة والسلام - : " من أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده " ( وحملتك على هذه الدابة إذا نوى الهبة ) ; لأن المراد به الإركاب حقيقة ويستعمل في الهبة ، يقال : حمل الأمير فلانا على فرس : أي وهبه فيحمل عليه عقد الهبة ( وكسوتك هذا الثوب ) قال - تعالى - : ( أو كسوتهم ) أراد تمليكهم الكسوة ، ويقال : كساه ثوبا إذا وهبه ، ولو قال : منحتك هذه الدار أو هذه الجارية فهي عارية إلا أن ينوي الهبة ، ولو قال ذلك فيما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه فهو هبة كالدراهم والدنانير والمطعوم والمشروب . قال : ( وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة ، وفيما يقسم لا تجوز ) ; لأن القبض شرط في الهبة لما روينا وأنه غير ممكن في المشاع ، ولو جوزناه لكان له إجبار الواهب على القسمة ولم يلتزمه فيكون إضرارا به ، وما لا يقسم الممكن فيه القبض الناقص فيكتفى به ضرورة ، ولا يلزم ضرر الإجبار على القسمة ببقاء الإجبار على المهايأة . قلنا : المهايأة في المنافع ولم يتبرع بها ، [ ص: 67 ] لأن الهبة صادفت العين لا المنافع . قال : ( فإن قسم وسلم جاز ) ; لأن بالقبض لم يبق شيوع وذلك ( كسهم في دار و ) مثله ( اللبن في الضرع والصوف على الظهر والتمر على النخل والزرع في الأرض ) ; لأن اتصال هذه الأشياء كالشيوع من حيث إنه يمنع القبض ، وكذلك لو وهبه من شريكه لا يجوز لعدم إمكان القبض .
قال : ( ولو وهب اثنان من واحد جاز ، وبالعكس لا يجوز ) أما الأول فلأنهما سلماها والموهوب له قبضها جملة ولا شيوع ولا ضرر . وأما الثانية فمذهب أبي حنيفة وقالا : يصح أيضا ; لأنها هبة واحدة والتمليك واحد فلا شيوع ، وصار كالرهن من اثنين ولأبي حنيفة أنه وهب من كل واحد منهما النصف لأنه يثبت لكل واحد منهما الملك في النصف ، ألا ترى أنه لو كان فيما لا يقسم ، فقبل أحدهما صح في النصف فكان تمليكا للنصف وأنه شائع ، وأما الرهن فالمستحق فيه الحبس ، ويثبت لكل واحد كاملا وتمامه مر في الرهن .
قال : ( ولو تصدق على فقيرين جاز ) وكذلك لو وهب لهما ( وعلى غنيين لا يجوز ) وقالا : تجوز في الغنيين أيضا لما مر والفرق لأبي حنيفة أن إعطاء الفقير يراد به وجه الله - تعالى - فهو واحد ، وسواء كان بلفظ الصدقة أو بلفظ الهبة ، وسواء كان فقيرا واحدا أو أكثر ، والإعطاء للغني يراد به وجه الغني وهما اثنان فكان مشاعا ، والصدقة على الغني هبة لأنه ليس من أهل الصدقة .
قال : ( ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء ) لما تقدم أن الاستثناء إنما يعمل فيما يعمل فيه العقد ، والهبة لا تصح في الحمل فكذا الاستثناء فكان شرطا فاسدا ; والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة ; لأنه - عليه الصلاة والسلام - أجاز العمرى وأبطل شرط [ ص: 68 ] المعمر بخلاف البيع فإنه يفسد بالشروط الفاسدة ; لأنه - عليه الصلاة والسلام - : " نهى عن بيع وشرط " ، ولو دبر الجنين ثم وهبها لم يجز ، ولو أعتقه ثم وهبها جاز ; والفرق أن المدبر مملوك الواهب وأنه متصل بالأم اتصال خلقة ، فمنع صحة القبض كالمشاع ، وفي الحر لم يبق ملكا له ، فالموهوب غير مشغول بحقه ولا متصل به فلا يمنع الصحة ، ولو وهبه جارية على أن يعتقها أو يستولدها ، أو على أن يدبرها ، أو دارا على أن يرد عليه شيئا منها أو يعوضه عنها شيئا فالهبة جائزة والشرط باطل ، ; لأنها شروط تخالف مقتضى العقد فكانت فاسدة ، وأنها لا تبطل الهبة لما مر .