[ ص: 257 ] ولا يقع إلا من مالك قادر على التبرعات وألفاظه : صريح ، وكناية فالصريح يقع بغير نية ، وهو قوله : أنت حر ، أو محرر ، أو عتيق ، أو معتق ، وأعتقتك ، أو حررتك ، وهذا مولاي ، أو يا مولاي ، أو هذه مولاتي ، ويا حر ، ويا عتيق ، إلا أن يجعل ذلك اسما له فلا يعتق ، وكذلك إضافة الحرية إلى ما يعبر به عن البدن .
والكنايات تحتاج إلى النية ، وذلك مثل قوله : لا ملك لي عليك ، ولا سبيل لي عليك ، ولا رق ، وخرجت من ملكي ، وكذلك لو قال لأمته : أطلقتك ، ولو قال طلقتك لا تعتق وإن نوى ، وإن قال : هذا ابني أو أبي أو أمي عتق ( سم ) ولو قال : هذا أخي لم يعتق ، ولو قال : يا بني أو يا أخي لم يعتق ، ولو قال : أنت مثل الحر لم يعتق ، ولو قال : ما أنت إلا حر عتق ، ولو قال : لا سلطان لي عليك لم يعتق وإن نوى ، وعتق المكره والسكران واقع .
وهو في اللغة : القوة ، يقال : عتق الطائر : إذا قوي على الطيران ، وعتاق الطير : كواسبها لقوتها على الكسب ، وعتقت الخمر : قويت واشتدت ، ويستعمل للجمال ، يقال : فرس عتيق : أي رائع جميل ، وسمي الصديق عتيقا لجماله ، ويستعمل للكرم ، ومنه البيت العتيق : أي الكريم ، ويستعمل للسعة والجودة ، ومنه رزق عاتق : أي جيد واسع .
وفي الشرع : زوال الرق عن المملوك وفيه هذه المعاني اللغوية فإنه بالعتق يقوى على ما لم يكن قادرا عليه قبله من الأقوال والأفعال ، ويورثه جمالا وكرامة بين الناس ويزول عنه ما كان فيه من ضيق الحجر والعبودية فيتسع رزقه بسبب القدرة على الكسب . والحرية : الخلاص ، والحر : الخالص ، ومنه طين حر : خالص لا رمل فيه ، وأرض حرة : خالصة من الخراج والنوائب . والتحرير : إثبات الحرية وهو الخلوص في الذات عن شائبة الرق .
والرق في اللغة : الضعف ، ومنه ثوب رقيق ، وصوت رقيق : أي ضعيف . وفي الشرع : ضعف معنوي ، وهو العجز عما يقدر عليه الحر من الولايات والشهادات والخروج إلى الحج والجهاد وصلاة الجمعة والجنائز وغيرها من العبادات ، وبالإعتاق والتحرير تثبت له القوة على هذه الأفعال وتخلصه عن شوائب الرق والإذلال . وقال القدوري رحمه الله : العتق إسقاط الحق عن الرق ، والحقوق تسقط بالإسقاط ، فإسقاط الحق عن الرق عتق ، وعن استباحة البضع طلاق ، وعن الديون براءة ، فإنه إذا أسقط حقه عن هذه الأشياء لم يبق شيء يحتاج إلى النقل فيسقط ، ولا كذلك الأعيان فإنه لا يصح إسقاط الحق عنها ، لأن العين بعد الإسقاط تبقى غير متنقلة فلا يسقط حقه .
ثم العتق قد يقع قربة ومباحا ومعصية ، فإن أعتقه لوجه الله تعالى أو عن كفارة فهو قربة ، وإن أعتقه من غير نية أو أعتقه لفلان فهو مباح وليس بقربة ، وإن أعتقه للصنم أو للشيطان فهو معصية .
ويستحب أن يكتب له كتابا بالعتق ويشهد عليه به توثقا وخوفا من التجاحد .
( ولا يقع إلا من مالك قادر على التبرعات ) ، أما الملك فلقوله عليه الصلاة والسلام : " لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم " ، وكذلك إذا أضافه إلى ملكه كما مر في الطلاق ، وأما كونه قادرا على التبرعات فلأنه تبرع .
قال : ( وألفاظه : صريح وكناية ، فالصريح يقع بغير نية ) كما قلنا في الطلاق ، ( وهو قوله : أنت حر ، أو محرر ، أو عتيق ، أو معتق ) وإن نوى به الخلوص والقدم صدق ديانة لا قضاء ، لأنه خلاف الظاهر وهو يحتمله ، ( و ) قوله ( أعتقتك ، أو حررتك ) صريح أيضا ، ( و ) كذلك ( هذا مولاي ، أو يا مولاي ، أو هذه مولاتي ) لأنه يستعمل في المعتق والمعتق فإذا انتفى أحدهما [ ص: 259 ] ثبت الآخر ضرورة ، ولو نوى النصرة والمحبة صدق ديانة لا قضاء لما بينا ، ولو قال : أنت حر من هذا العمل ، أو أنت حر اليوم من هذا العمل عتق قضاء لأنه متى صار حرا في شيء صار حرا في كل الأشياء ، لأن الحرية لا تتجزأ ( ويا حر ، ويا عتيق ) صريح أيضا ( إلا أن يجعل ذلك اسما له فلا يعتق ) إلا أن يريد به الإنشاء .
قال : ( وكذلك إضافة الحرية إلى ما يعبر به عن البدن ) وهو كالطلاق في التفصيل والحكم والخلاف والعلة ، ولو أعتق جزءا شائعا كالثلث والربع عتق ذلك الجزء عند أبي حنيفة ويسعى العبد في الباقي ، وعندهما يعتق كله على ما نبينه ، ولو قال : بعضك حر أو جزؤك عتق كله عندهما . وعند أبي حنيفة يؤمر بالبيان . ولو قال : دمك حر ؛ فيه روايتان . وعن أبي يوسف لو قال لأمته : فرجك حر من الجماع عتقت ، ولو قال لعبده : فرجك حر يعتق ، وقيل لا يعتق لأن فرج المرأة يعبر به عن جميع البدن لا فرج الرجل ، قال عليه الصلاة والسلام : "لعن الله الفروج على السروج " والمراد النساء ، وفي الاست والدبر ، الأصح أنه لا يعتق لأنه لا يعبر به عن البدن ، وفي العتق روايتان . ومما يلحق بالصريح قوله لعبده : وهبت لك نفسك ، أو بعتك نفسك فإنه يعتق بغير نية قبل العبد أو لم يقبل ، لأن ذلك يقتضي زوال الملك إلى العبد فيزول ملكه بإزالته صريحا ، فلم يكن صريحا في العتق لأنه ليس بموضوع لغة ، لكنه ملحق بالصريح من حيث إنه يقع بغير نية ، وإنما يملك العبد النفسية دون المالية لأنه بغير عوض فيكون إعتاقا فلا يحتاج إلى القبول ، حتى لو قال له : بعت منك نفسك بكذا افتقر إلى القبول لمكان العوض .
( والكنايات تحتاج إلى النية ) لاحتمال اللفظ العتق وغيره فلا يتعين أحدهما إلا بالنية كما قلنا في الطلاق ، ( وذلك مثل قوله : لا ملك لي عليك ، ولا سبيل لي عليك ، ولا رق ، وخرجت من ملكي ) لأنه يحتمل لا ملك لي عليك لأني بعتك أو وهبتك ، ويحتمل لأني أعتقتك ، وكذا سائرها فاحتاج إلى النية ، وكذا خليت سبيلك ، ولا سبيل لي عليك ، لأن نفي السبيل يكون بالبيع ويكون بالكتابة ويكون بالعتق فلا يتعين إلا بالنية ، ( وكذا لو قال لأمته : أطلقتك ) لأنه بمعنى خليت سبيلك .
( ولو قال : طلقتك لا تعتق وإن نوى ) وكذلك سائر ألفاظ صريح الطلاق وكناياته ، لأن [ ص: 260 ] ملك اليمين أقوى من ملك النكاح ، وما يزيل الأقوى يزيل الأضعف بطريق الأولى ، أما ما يكون مزيلا للأضعف لا يلزم أن يكون مزيلا للأقوى ، ولأن العتق إثبات للقوة على ما قدمناه ، والطلاق رفع القيد ، وبين الإثبات والرفع تضاد ، ولأن صريح الطلاق وكناياته مستعملة لحرمة الوطء ، وحرمة الوطء تنافي النكاح ولا تنافي المملوكية فلا يقع كناية عنه ، ولو قال لأمته : أنت حر أو لعبده : أنت حرة لا تعتق إلا بالنية ، لأنه ليس صريحا فيه ، ولو قال : لا حق لي عليك يعتق إذا نوى ، روي ذلك عن أبي حنيفة ومحمد ، لأن الحق عبارة عن الملك فكأنه قال : لا ملك لي عليك ، ولو قال : أنت لله ، أو جعلتك خالصا لله ، روي عن أبي حنيفة أنه لا يعتق لأن الأشياء كلها لله تعالى بحكم التخليق ، وعنهما أنه يعتق لأن الخلوص لله تعالى لا يتحقق إلا بالعتق .
قال : ( وإن قال هذا ابني أو أبي أو أمي عتق ) ، وكذلك قوله : هذا عمي أو خالي ، ثم إن كان العبد يصلح والدا أو ولدا وهو مجهول النسب يثبت نسبه أيضا ، لأن له ولاية الدعوة والعبد محتاج إلى النسب فيثبت ويعتق بالإجماع ، وإن كان لا يصلح والدا في قوله هذا أبي بأن كان أصغر منه ، ولا ولدا في قوله : هذا ابني بأن كان أكبر منه ، أو مقارنة - عتق أيضا عملا بمجاز اللفظ وهو الحرية عليه من حين ملكه ولا يثبت النسب لتعذره . وقال أبو يوسف ومحمد : لا يعتق لأنه كذب ، فصار كقوله أعتقتك قبل أن أخلق . ولأبي حنيفة أنه إن تعذر العمل بحقيقته أمكن العمل بمجازه ، لأن الحرية ملازمة للبنوة في المملوك ، والملازمة من طريق المجاز تحرزا عن إلغاء كلام العاقل ، بخلاف ما ذكر لأنه لا وجه للمجاز فيه فتعين الإلغاء ، ثم قيل لا يشترط تصديق العبد لأن إقرار المالك على مملوكه يصح من غير تصديقه ، وقيل يشترط التصديق فيما سوى دعوة البنوة ، لأن غير البنوة حمل النسب على غيره فيكون دعوى على العبد يلزمه بعد الحرية فيشترط تصديقه ، وإن كان العبد معروف النسب لا يثبت نسبه منه للتعذر ، ويعتق عملا بما ذكرنا من المجاز .
( ولو قال : هذا أخي لم يعتق ) في ظاهر الرواية لأنه يراد به الأخ في الدين عرفا وشرعا ، قال تعالى : ( إنما المؤمنون إخوة ) ، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يعتق لأن ملك الأخ موجب للعتق ، والأخوة عند الإطلاق تنصرف إلى النسب .
[ ص: 261 ] ( ولو قال : يا بني أو يا أخي لم يعتق ) في ظاهر الرواية . وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يعتق بالنداء إلا بخمسة ألفاظ : يا بني ، يا بنتي ، يا عتيق ، يا حر ، يا مولاي . وقال محمد في النوادر : لا يعتق إلا بالثلاثة الأخيرة ، لأن النداء وضع لإعلام المنادى لا لتحقيق معنى النداء في المنادى حتى يقال للبصير يا أعمى ، وللأبيض يا أسود ، إلا فيما تعارف الناس إثبات العتق به وهي الألفاظ الثلاثة . ولأبي حنيفة أنه تعذر جعله إعلاما لأن المذكور ليس باسم له وضعا فجعلناه لإثبات معنى النداء في المنادى وهو الحرية صونا لكلامه عن الإلغاء ، ولو قال لعبده : هذه بنتي ، أو لأمته : هذا ابني . عتق عند أبي حنيفة عملا بالإشارة ، وقيل لا يعتق لأن الإشارة والتسمية اجتمعا في جنسين فكانت العبرة للتسمية والمسمى معدوم .
( ولو قال : ما أنت إلا حر عتق ) لأن هذا إثبات من النفي فهو أبلغ في التأكيد كلفظة الشهادة ، ( ولو قال : لا سلطان لي عليك لم يعتق وإن نوى ) لأن السلطان عبارة عن اليد ، فصار كأنه قال : لا يد لي عليك ونوى لا يعتق ، لأن نفي اليد المفردة بالكتابة لا بالعتق ، ( وعتق المكره والسكران واقع ) لما مر في الطلاق .