وهي أخذ العاقل البالغ نصابا محرزا ، أو ما قيمته نصابا ملكا للغير لا شبهة له فيه على وجه الخفية . والنصاب دينار أو عشرة دراهم مضروبة من النقرة . والحرز يكون بالحافظ وبالمكان كالدور والبيوت والحانوت ، ولا يعتبر فيه الحافظ . وإذا سرق من الحمام ليلا قطع ، وبالنهار لا وإن كان صاحبه عنده; والمسجد والصحراء حرز بالحافظ ، والجوالق والفسطاط كالبيت ، فإن سرق الفسطاط والجوالق لا يقطع إلا أن يكون لهما حافظ ، ولهذا قالوا : لا يقطع النباش ، وتثبت السرقة بما يثبت به القذف ، ويسأل الشهود عن كيفيتها وزمانها ومكانها وماهيتها ، ولا بد من حضور المسروق منه عند الإقرار والشهادة والقطع وإذا دخل جماعة الحرز وتولى بعضهم الأخذ قطعوا إن أصاب كل واحد نصاب; وإن نقب فأدخل يده وأخرج المتاع; أو دخل فناول المتاع آخر من خارج لم يقطع ، وإن ألقاه في الطريق ثم أخذه قطع ، ولو حمله على حمار وساقه قطع ، وإن أدخل يده في صندوق الصيرفي أو كم غيره وأخذ قطع .
[ ص: 363 ] كتاب السرقة
( وهي ) في اللغة : أخذ الشيء على سبيل الخفية والاستسرار بغير إذن المالك ، سواء كان المأخوذ مالا أو غير مال ، ومنه استراق السمع ، قال الله تعالى : ( إلا من استرق السمع فأتبعه ) وسرقة الشاعر المعنى وسرقة الصنعة ، ونحوه .
وفي الشرع : ( أخذ العاقل البالغ نصابا محرزا ، أو ما قيمته نصابا ملكا للغير لا شبهة له فيه على وجه الخفية ) والمعنى اللغوي مراعى فيه ابتداء وانتهاء ، أو ابتداء في بعض الصور كما إذا نقب البيت خفية وأخذ المال مكابرة وذلك يكون ليلا ، لأنه ربما أحسوا به فكابر وأخذ ولا غوث بالليل فيقطع; أما النهار لو فعل ذلك لا يقع لأنه يلحقهم الغوث فلا يمكنه ذلك ، فيشترط الخفية ليلا ونهارا فهي مسارقة عين المالك أو من يقوم مقامه; وفي قطع الطريق وهي السرقة الكبرى مسارقة عين الإمام وأعوانه لأنه المتصدي لحفظ الطريق بأعوانه ، لأن الأموال إنما تصير مصونة محرزة بحفظ الإمام وحمايته .
والأصل في وجوب القطع قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) وقرأ nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود رضي الله عنه : ( فاقطعوا أيمانهما ) وقوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) [ ص: 364 ] الآية ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( من سرق قطعناه ) ورفع إليه صلى الله عليه وسلم سارق فقطعه وإجماع الأمة على وجوب القطع وإن اختلفوا في مقدار النصاب ، ولأن المال محبوب إلى النفوس تميل إليه الطباع البشرية خصوصا عند الحاجة والضرورة ، ومن الناس من لا يردعه عقل ، ولا يمنعه نقل ، ولا تزجرهم الديانة ، ولا تردهم المروءة والأمانة ، فلولا الزواجر الشرعية من القطع والصلب ونحوهما لبادروا إلى أخذ الأموال مكابرة على وجه المجاهرة ، أو خفية على وجه الاستسرار ، وفيه من الفساد ما لا يخفى ، فناسب شروع هذه الزواجر في حق المستسر والمكابر في سرقتي الصغرى والكبرى حسما لباب الفساد وإصلاحا لأحوال العباد ، والعبد والحر في القطع سواء لإطلاق النصوص ، ولأن القطع لا يتنصف فيكمل في العبد صيانة لأموال الناس; ولا بد من العقل والبلوغ لأن القطع شرع زاجرا عن الجناية ، ولا جناية من الصبي والمجنون .
وأما اشتراط النصاب فلما روي أن اليد كانت لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه ولأنه لا بد من اعتبار مال له خطر لتتحقق الرغبة فيه فيجب الزجر عنه; أما الحقير لا تتحقق الرغبة فيه فلا حاجة إلى الزجر عنه ، ولا بد أن يكون محرزا لأنه عليه الصلاة والسلام nindex.php?page=hadith&LINKID=10346864لم يوجب القطع في حريسة الجبل . أي ما يحرس بالجبل لعدم الحرز .
ولا بد أن يكون غير مأذون له بالدخول فيها ، لأن بالإذن يخرج من أن يكون حرزا في حقه; ويشترط أن يكون ملكا للغير لا شبهة له فيه ، لأن الحدود تدرأ بالشبهات على ما مر ، وتكون على سبيل الخفية لأن السرقة لا تكون على الجهر على ما مر .
قال : ( والنصاب دينار أو عشرة دراهم مضروبة من النقرة ) لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا قطع في أقل من [ ص: 365 ] عشرة دراهم " وما روي أن القطع كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يك إلا في ثمن المجن فقد نقل nindex.php?page=hadith&LINKID=10346866عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وابن أم أيمن قالا : كانت قيمة المجن الذي قطع فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم ، ونقل أقل من عشرة دراهم; والأخذ بالأكثر أولى احتيالا للدرء ، وفي الأقل شبهة عدم الجناية . وروي عن أبي يوسف ومحمد : أنه لا يقطع في عشرة دراهم تبر ما لم تكن مضروبة . وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر قيمته بنقد البلد . وروى الحسن عنه : إذا سرق عشرة دراهم مما يروج بين الناس قطع ، فعلى هذا إذا كان التبر رائجا بين الناس قطع . وروى الحسن عنه أيضا : لو سرق أحد عشر درهما لا تروج ، فإن كانت تساوي عشرة رائجة قطع ، وإلا فلا .
قال : ( والحرز يكون بالحافظ وبالمكان ) لأن الحرز ما يصير به المال محرزا عن أيدي اللصوص وذلك بما ذكرنا ، فالحافظ كمن جلس في الصحراء أو في المسجد أو في الطريق وعنده متاعه فهو محرز به وسواء كان نائما أو مستيقظا; أما إذا كان مستيقظا فظاهر; وأما إذا كان نائما فلما روي : " أنه عليه الصلاة والسلام قطع سارق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد " وسواء كان المتاع تحته أو عنده ، لأنه يعد حافظا له في ذلك كله عرفا; والحرز بالمكان هو ما أعد للحفظ .
( كالدور والبيوت والحانوت ) والصندوق ونحوه ( ولا يعتبر فيه الحافظ ) لأنه محرز [ ص: 366 ] بدونه ، وهو المكان الذي أعد للحفظ ، إلا أن القطع لا يجب بالأخذ من الحرز بالمكان إلا بالإخراج منه ، لأن يد المالك قائمة ما لم يخرجه ، والمحرز بالحافظ يجب القطع كما أخذه ، لأن يد المالك زالت بمجرد الأخذ فتمت السرقة .
ولو كان باب الدار مفتوحا فدخل نهارا وأخذ متاعا لم يقطع ، لأنه مكابرة وليس بسرقة لعدم الاستسرار على ما بينا; وإن دخل ليلا قطع لأنه حرز لأنه بني للحرز; ولو دخل بين العشاء والعتمة والناس منتشرون فهو بمنزلة النهار; ولو علم صاحب الدار باللص واللص لا يعلم به أو بالعكس قطع لأنه مستخف; وإن علم كل واحد بالآخر لا يقطع لأنه مكابر .
قال : ( وإذا سرق من الحمام ليلا قطع ، وبالنهار لا وإن كان صاحبه عنده ) لأنه مأذون له بالدخول فيه نهارا فاختل الحرز ، ويقطع ليلا لأنه بني للحرز ، وما اعتاد الناس من دخول الحمام بعض الليل فهو كالنهار لوجود الإذن ، وعلى هذا كل حرز أذن بالدخول فيه كالخانات وحوانيت التجار والضيف ونحوهم .
قال : ( والمسجد والصحراء حرز بالحافظ ) لأن الصحراء ليس بحرز ، والمسجد ما بني للحفظ والإحراز ، فلو سرق منه وصاحبه عنده يحفظه قطع لوجود السرقة ، بخلاف الحمام والحرز الذي أذن بالدخول فيه حيث لا يقطع وإن كان صاحبه عنده ، لأنه بني للإحراز فلا يعتبر فيه الحافظ لما مر .
قال : ( والجوالق والفسطاط كالبيت ) لأنه عمل للحفظ ( فإن سرق الفسطاط والجوالق لا يقطع ) لأنهما ليسا في حرز وإن كانا حرزا لما فيهما ( إلا أن يكون لهما حافظ ) فيقطع لوجود الحرز ، وقال أصحابنا : ما كان حرزا لنوع فهو حرز لجميع الأنواع حتى جعلوا شريجة البقال حرزا للجواهر لأنه يحرز خلفها الدراهم والدنانير .
( ولهذا قالوا : لا يقطع النباش ) لأن القبر ليس بحرز لغير الكفن فلا يكون حرزا للكفن .
[ ص: 367 ] قال : ( وتثبت السرقة بما يثبت به القذف ) يعني بالإقرار مرة وبشهادة شاهدين كسائر الحقوق وقد تقدم . وقال أبو يوسف : لا بد من إقراره مرتين لأنه إحدى الحجتين فيعتبر فيها التثنية كالأخرى وهي البينة كما في الزنا وحد الشرب على هذا الخلاف . ولهما أن السرقة والشرب ثبت بالمرة الواحدة فلا حاجة إلى الأخرى كالقصاص ، وحد القذف والتثنية في الشهادة منصوص عليه ، ولأنه يفيد تقليل تهمة الكذب ، ولا كذلك الإقرار لأنه لا تهمة فيه واشتراط الزيادة في الزنا على خلاف القياس فيقتصر على مورد النص .
قال : ( وإذا دخل جماعة الحرز وتولى بعضهم الأخذ قطعوا إن أصاب كل واحد نصاب ) لوجود السرقة من كل واحد منهم ، لأن الأخذ وجد من الكل معنى للمعاونة كما في قطع الطريق وصار كالردء والمعين ، وإن كان أقل من نصاب لم يقطع ، لأن القطع يجب على كل واحد بجنايته فيعتبر كمالها في حقه .
قال : ( وإن نقب فأدخل يده وأخرج المتاع ، أو دخل فناول المتاع آخر من خارج لم يقطع ) أما الأولى فلأنه لم يوجد الهتك على وجه الكمال وهو الدخول فصار فيه شبهة العدم فلا يجب الحد . وأما الثانية فلأن الداخل لم يخرج المتاع لاعتراض يد معتبرة عليه قبل إخراجه ، والخارج لم يوجد منه هتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد منهما .
[ ص: 368 ] وعن أبي يوسف : القطع في الأولى لأن المقصود من السرقة إخراج المال من الحرز وقد وجد ، فصار كما إذا أدخل يده في صندوق الصيرفي وأخرج الدراهم عنه; وفي المسألة الثانية إن أخرج الداخل يده وناولها الخارج قطع الداخل ، وإن أدخل الخارج يده فتناولها من الداخل قطعا وهي بناء على الأولى . وجوابه أن كمال هتك حرمة الحرز بالدخول فيه وهو ممكن معتاد ، ولم يوجد بخلاف الصندوق لأن الممكن فيه إدخال يده فيه دون دخوله .
قال : ( وإن ألقاه في الطريق ثم أخذه قطع ) وقال زفر : لا يقطع : لأن الإلقاء لا يوجب القطع كما لو لم يأخذه ، وبالأخذ من الطريق لا يقطع كما لو أخذه غيره . ولنا أنه لم يعترض عليه فعل آخر فاعتبر الكل فعلا واحدا ، ولأن ذلك عادة اللصوص ، لأنه يتعذر خروجهم بالمتاع فيفعلوا ذلك أو يفعلونه ليتفرغوا للدفع لو ظهر عليهم أو للهرب فكان من تمام السرقة ، بخلاف ما إذا ألقاه ولم يأخذه لأنه مضيع لا سارق .
( و ) كذلك ( لو حمله على حمار وساقه قطع ) لأن مشيه مضاف إليه ، ولو خرج قبل الحمار ثم خرج الحمار بعده وجاء إلى منزله لم يقطع ، ولو علق على طائر له وتركه في المنزل فطار بعد ذلك إلى منزله لم يقطع لأنه مختار في ذلك; ولو طرح المتاع في نهر في الدار فذهب به الماء وأخرجه لا قطع عليه لأن الماء أخرجه بقوته حتى لو لم يكن له قوة وحركه هو حتى أخرجه قطع لأنه مضاف إلى فعله .