الجهاد فرض عين عند النفير العام وكفاية عند عدمه ، وقتال الكفار واجب على كل رجل عاقل صحيح حر قادر ، وإذا هجم العدو وجب على جميع الناس الدفع تخرج المرأة والعبد بغير إذن الزوج والسيد ، ولا بأس بالجعل إذا كان بالمسلمين حاجة ; وإذا حاصر المسلمون أهل الحرب في مدينة أو حصن دعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا كفوا عن قتالهم ، وإن لم يسلموا دعاهم إلى أداء الجزية إن كانوا من أهلها وبينوا لهم كميتها ومتى تجب ، فإن قبلوها فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ، ويجب أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة ، ويستحب ذلك لمن بلغته ، فإن استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم ، ونصبوا عليهم المجانيق ، وأفسدوا زروعهم وأشجارهم وحرقوهم ورموهم ، وإن تترسوا بالمسلمين ، ويقصدون به الكفار ; وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا ، ولا يغلوا ، ولا يمثلوا ، ولا يقتلوا مجنونا ، ولا امرأة ، ولا صبيا ، ولا أعمى ، ولا مقعدا ، ولا مقطوع اليمين ، ولا شيخا فانيا ، إلا أن يكون أحد هؤلاء ملكا ، أو ممن يقدر على القتال أو يحرض عليه ، أو له رأي في الحرب ، أو مال يحث به أو يكون الشيخ ممن يحتال .
[ ص: 382 ] كتاب السير وهي جمع سيرة ، وهي الطريقة خيرا كانت أو شرا ، ومنه سيرة العمرين : أي طريقتهما ; ويقال : فلان محمود السيرة ، وفلان مذموم السيرة : يعني الطريقة ، وسمي هذا الكتاب بذلك لأنه يجمع سير النبي عليه الصلاة والسلام ، وطريقته في مغازيه ، وسيرة أصحابه وما نقل عنهم في ذلك .
قال : ( الجهاد فرض عين عند النفير العام وكفاية عند عدمه ) أما الأول فلقوله تعالى : ( انفروا خفافا وثقالا ) الآية ; والنفير العام : أن يحتاج إلى جميع المسلمين فلا يحصل المقصود وهو إعزاز الدين وقهر المشركين إلا بالجميع ، فيصير عليهم فرض عين كالصلاة .
وإذا لم يكن كذلك فهو فرض كفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين كرد السلام ونحوه ، لأن المراد والمقصود منه دفع شر الكفر وكسر شوكتهم ، وإطفاء ثائرتهم ، وإعلاء كلمة الإسلام ، فإذا حصل المقصود بالبعض فلا حاجة إلى غيرهم ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يخرج إلى الجهاد ولا يخرج جميع أهل المدينة ، ولأنه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فيكون على الكفاية ، ولأنه لو وجب على جميع الناس تعطلت مصالح المسلمين من الزراعات والصنائع ، وانقطعت مادة الجهاد من الكراع والسلاح فلا يقدر المجاهدون على الإقامة على الجهاد فيؤدي إلى تعطيله ، فإن لم يقم به أحد أثم جميع الناس بتركه كسائر فروض الكفاية .
قال : ( وقتال الكفار واجب على كل رجل عاقل صحيح حر قادر ) لأن المرأة والعبد مشغولان بخدمة السيد والزوج ، وحق العبد مقدم ، والصبي والمجنون غير داخلين في الخطاب ، وأما غير القادر فلأن تكليف العاجز قبيح كالمريض والأعمى والمقعد ونحوهم ، وفيه نزل قوله تعالى : ( ليس على الأعمى حرج ) الآية التي في سورة الفتح .
قال : ( وإذا هجم العدو وجب على جميع الناس الدفع ، تخرج المرأة والعبد بغير إذن الزوج والسيد ) لأنه يصير فرض عين ، وحق الزوج والسيد لا يظهر في مقابلة فرض الأعيان كالصلاة والصوم .
[ ص: 384 ] قال : ( ولا بأس بالجعل إذا كان بالمسلمين حاجة ) لأنه دفع الضرر الأعلى باحتمال الأدنى ، والحاجة أن لا يكون في بيت مال المسلمين شيء ويحتاج المسلمون إلى الميرة ومواد الجهاد ولا شيء لهم; وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ دروعا من صفوان وكان عمر رضي الله عنه يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ، ويعطي الشاخص فرس القاعد .
قال : ( فإن لم يسلموا دعاهم إلى أداء الجزية ) لما سبق من الحديث ( إن كانوا من أهلها وبينوا لهم كميتها ، ومتى تجب ) على ما يعرف في بابه ، أما إذا لم يكونوا من أهلها لا يدعوهم ، لأنه لا فائدة فيه ، إذ لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ويعرفهم قدرها لتنقطع المنازعة بعد ذلك ، ولأن القتال ينتهي بالجزية ، قال تعالى : ( حتى يعطوا الجزية عن يد ) أي حتى يقبلوها .
قال : ( ويجب أن يدعوا من لم تبلغه الدعوة ) لما تقدم وليعلموا ما يقاتلهم عليه فربما أجابوا فنكفى مئونة القتال ، فإن قاتلهم بغير دعوة قيل يجوز ، لأن الدعوة إلى الإسلام قد انتشرت في دار الحرب فقام الشيوع مقام البلوغ ، وقيل لا يجوز وهو آثم للنهي أو لمخالفة الأمر على ما مر ، ولأن الشيوع في بعض البلاد لا يعتبر شيوعا في الكل .
قال : ( فإن أبوا ) يعني عن الإسلام والجزية ( استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم ) لما بينا ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10346888فإن أبوا فاستعن بالله تعالى عليهم وقاتلهم " ولأنه أعذر إليهم فأقاموا على عداوتهم فوجبت مناجزتهم ، وأن يستعان بالله تعالى عليهم ، لأنه الناصر لأوليائه المذل لأعدائه فيستعان به .
قال : ( ولا يقتلوا مجنونا ، ولا امرأة ، ولا صبيا ، ولا أعمى ، ولا مقعدا ، ولا مقطوع اليمين ، ولا شيخا فانيا ، إلا أن يكون أحد هؤلاء ملكا ، أو ممن يقدر على القتال ، أو يحرض عليه ، أو له رأي في الحرب أو مال يحث به ، أو يكون الشيخ ممن يحتال ) nindex.php?page=hadith&LINKID=10346892لنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل الصبيان والذراري ، ورأى عليه الصلاة والسلام امرأة مقتولة فقال : " هاه ما [ ص: 387 ] لها قتلت وما كانت تقاتل ; ولأن الموجب للقتل هو الحراب بإشارة هذا النص وهؤلاء لا يقاتلون والمجنون غير مخاطب ، وكذلك مقطوع اليد والرجل من خلاف ، ويابس الشق لما بينا ، فإذا كان أحد هؤلاء ملكا ، أو يقدر على القتال ، أو له مال يعين به ، أو رأي لا يؤمن شره فصار كالمقاتل " والنبي - صلى الله عليه وسلم - قتل دريد بن الصمة وكان له مائة وعشرون سنة لأنه كان صاحب رأي " ويقتل الرهابين وأهل الصوامع الذين يخالطون الناس أو يدلون على عورات المسلمين لما مر ، فإن كانوا لا يخالطون الناس أو حبسوا أنفسهم في جبل أو صومعة ونحوه لا يقتلون لما بينا .