والنظر إلى العورة حرام إلا عند الضرورة كالطبيب والخاتن والخافضة والقابلة ، وقد بينا العورة في الصلاة وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا العورة ، وتنظر المرأة من المرأة والرجل إلى ما ينظر الرجل من الرجل ، وينظر من زوجته وأمته التي تحل له إلى جميع بدنها ، وينظر من ذوات محارمه وأمة الغير إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين والشعر ، ولا بأس بأن يمس ما يجوز النظر إليه إذا أمن الشهوة ، ولا ينظر إلى الحرة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة ، فإن خاف الشهوة لا يجوز إلا للحاكم والشاهد ، ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة ; والعبد مع سيدته كالأجنبي ، والفحل والخصي والمجبوب سواء ، ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو شيئا منه أو يعانقه ولا بأس بالمصافحة ، ولا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل .
فأما حالة الضرورة فالضرورات تبيح المحظورات ، ألا ترى أن الله أباح شرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير ومال الغير حالة المخمصة وما إذا غص ، وهذا لأن أحوال الضرورات مستثناة ، قال تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) وقال : ( لا تكلف نفس إلا وسعها ) وفي اعتبار حالة الضرورة حرج وتكليف ما ليس في الوسع ، ولأن هذه الأفعال مأمور بها ، فعند بعضهم هي واجبة ، وعند البعض سنة مؤكدة ، ولا يمكن فعلها إلا بالنظر إلى محالها ، فكان الأمر بها أمرا بالنظر إلى محالها ويلزم منه الإباحة ضرورة .
وينبغي للطبيب أن يعلم امرأة مداواتها ، لأن نظر المرأة إلى المرأة أخف من نظر الرجل إليها لأنها أبعد من الفتنة ، فإذا لم يكن منه بد فليغض بصره ما استطاع تحرزا عن النظر بقدر الإمكان ، وكذلك تفعل المرأة عند النظر إلى الفرج عند الولادة وتعرف البكارة ، ألا يرى أنه يجوز النظر إليه لتحمل الشهادة على الزنا ولا ضرورة فهذا أولى ، والعورة في الركبة أخف فكاشفها ينكر عليه برفق ، ثم الفخذ وكاشفه يعنف على ذلك; ثم السوءة فيؤدب كاشفها .
[ ص: 430 ] قال : ( وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا العورة ) لأن المنهي عنه النظر إلى العورة دون غيرها وعليه الإجماع ، وقد قبل nindex.php?page=showalam&ids=3أبو هريرة سرة الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال : هذا موضع قبله رسول الله عليه الصلاة والسلام ولأن الرجال يمشون في الطرق بإزار في جميع الأزمان من غير نكير ، فدل على جواز النظر إلى الأبدان .
قال : ( وتنظر المرأة من المرأة والرجل إلى ما ينظر الرجل من الرجل ) أما المرأة إلى المرأة فلانعدام الشهوة وللضرورة في الحمامات وغيرها ، وأما نظرها إلى الرجل فلاستوائهما في إباحة النظر إلى ما ليس بعورة ، ولأن الرجال يمشون بين الناس بإزار واحد ، فإذا خافت الشهوة أو غلب على ظنها لا تنظر احترازا عن الفتنة ، وكل ما جاز النظر إليه جاز مسه لاستوائهما في الحكم إلا إذا خافت الشهوة .
قال : ( وينظر من ذوات محارمه وأمة الغير إلى الوجه والرأس والصدر والساقين [ ص: 431 ] والعضدين والشعر ) والأصل فيه قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ) الآية ، والمراد موضع الزينة ، لأن النظر إلى نفس الثياب والحلي والكحل وأنواع الزينة حلال للأجانب والأقارب ، فكان المراد مواضع الزينة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه .
ومواضع الزينة ما ذكرنا ، فالرأس موضع الإكليل ، والشعر موضع العقاص ، والأذن موضع القرط ، والعنق موضع القلائد ، والصدر موضع الوشاح ، والعضدان موضع الدملج ، والذراع موضع السوار ، والساق موضع الخلخال . وعن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط ، ويستوي في ذلك المحرمية بالنسب والرضاع والمصاهرة لأن الحرمة مؤبدة في الكل فيستوين في إباحة النظر والمس .
قال : ( ولا بأس بأن يمس ما يجوز النظر إليه إذا أمن الشهوة ) لأن المسافرة معهن حلال بالنص ويحتاج في السفر إلى مسهن في الإركاب والإنزال ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قدم من مغازيه قبل رأس فاطمة . وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قبل رأس عائشة nindex.php?page=showalam&ids=12691ومحمد بن الحنفية كان يقبل رأس أمه ، ولأن المحرم لما كان لا يشتهي عادة حلت معه محل الرجال .
ولا ينبغي أن يفعل شيئا من ذلك إذا خاف الشهوة أو غلبت على ظنه ، بل ينبغي أن يغض بصره ، فإن من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، قال عليه الصلاة والسلام : " nindex.php?page=hadith&LINKID=10346940دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ولا يجوز النظر من هؤلاء إلى ما بين السرة حتى يجاوز الركبة لأنه عورة ولا إلى الظهر والبطن ، لأن حكم الظهار إنما ثبت لتشبيهه بظهر الأم ، فلولا حرمة ظهرها لما ثبتت حرمة الزوجية كما إذا شبهها بيدها ورجلها ، وإذا ثبتت حرمة الظهر فالبطن أولى ، لأن الشهوة فيها أكثر فكانت أولى بالتحريم ، ولأن ذلك ليس موضع الزينة ، فإن سافر معهن فلا بأس أن يحملهن وينزلهن ، يأخذ بالبطن والظهر ، لأن اللمس من فوق الثياب لا يوجب الشهوة فصار كالنظر ، حتى لو كانت متجردة أو عليها ثياب رقيقة يجد حرارتها من فوقها لا يمسها تحرزا عن الوقوع في الفتنة; وأما أمة الغير فلأنها تحتاج إلى الخروج وقضاء الحوائج والأخذ والإعطاء فيقع النظر إليها ضرورة ومس بعض أعضائها كما في المحارم .
[ ص: 432 ] وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى أمة متخمرة ألقى خمارها وقال لها : يا لكاع لا تتشبهين بالحرائر . ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها لأنه محل الشهوة ، ولأنه لما حرم من المحارم مع عدم الشهوة فيهن عادة فلأن يحرم من الإماء كان أولى ، وإنما يباح ذلك عند عدم الشهوة لما بينا ، إلا إذا أراد الشراء فإنه يباح له النظر مع الشهوة دون المس ، لأن المس بشهوة استمتاع بأمة الغير وأنه حرام ، أما النظر فليس باستمتاع ، وإنما حرم لإفضائه إلى الاستمتاع وهو الوطء . والمسافرة بأمة الغير قيل تحل كالمحارم وقيل لا وهو المختار ، لأن الشهوة إلى أمة الغير كثيرة ، ولا كذلك في المحارم ، ولأنه لا ضرورة إلى المسافرة والخلوة معها ، وفي المحارم ضرورة لما بينا ، وكذا يحل للأمة النظر من الأجنبي إلى جميع بدنه ومسه وغمزه ما خلا العورة بشرط عدم الشهوة ، لأن العادة أن جارية المرأة تخدم زوجها وتغمزه وتدهنه فدل على الجواز .
قال : ( ولا ينظر إلى الحرة الأجنبية إلا إلى الوجه والكفين إن لم يخف الشهوة ) وعن أبي حنيفة أنه زاد القدم ، لأن في ذلك ضرورة للأخذ والإعطاء ومعرفة وجهها عند المعاملة مع الأجانب لإقامة معاشها ومعادها لعدم من يقوم بأسباب معاشها .
والأصل فيه قوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) قال عامة الصحابة : الكحل والخاتم ، والمراد موضعهما لما بينا ، وموضعهما الوجه واليد ، وأما القدم فروي أنه ليس بعورة مطلقا لأنها تحتاج إلى المشي فتبدو; ولأن الشهوة في الوجه واليد أكثر ، فلأن يحل النظر إلى القدم كان أولى; وفي رواية القدم عورة في حق النظر دون الصلاة .
قال : ( ولا يجوز أن يمس ذلك وإن أمن الشهوة ) لأن المس أغلظ من النظر ، فإن الشهوة بالمس أكثر ، فإن كانت عجوزا لا تشتهى أو كان شيخا لا يشتهي فلا بأس بمصافحتها ، لما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه كان يصافح العجائز ، nindex.php?page=showalam&ids=16414وعبد الله بن الزبير استأجر عجوزا تمرضه فكانت تغمزه وتفلي رأسه .
[ ص: 433 ] والصغيرة التي لا تشتهى لا بأس بمسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة .
قال : ( والعبد مع سيدته كالأجنبي ) لأن خوف الفتنة منه مثلها من الأجنبي ، وبل أكثر لكثرة الاجتماع ، والنصوص المحرمة مطلقة ، والمراد من قوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانهن ) الإماء دون العبيد قاله الحسن nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير .
قال : ( والفحل والخصي والمجبوب سواء ) لأن الآية تعم الكل ، والطفل الصغير مستثنى بالنص ، ولأن الخصي يجامع والمجبوب يساحق فلا تؤمن الفتنة كالفحل .
قال : ( ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو شيئا منه أو يعانقه ) وعن أبي يوسف لا بأس به ، وعن بعض المشايخ لا بأس به إذا قصد به الإكرام والمبرة ولم يخف الشهوة ، لما روي : " أنه عليه الصلاة والسلام عانق nindex.php?page=showalam&ids=315جعفر بن أبي طالب حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه وكان يوم فتح خيبر وقال : لا أدري بأي الأمرين أسر; بفتح خيبر أم بقدوم جعفر " وجه الظاهر نهيه صلى الله عليه وسلم عن المكاغمة والمكامعة ، والأول التقبيل والثاني المعانقة ، وما رواه محمول على الابتداء قبل النهي .
قال : ( ولا بأس بالمصافحة ) فإنها سنة قديمة متوارثة بين المسلمين من لدن الصدر الأول إلى يومنا هذا .
قال : ( ولا بأس بتقبيل يد العالم والسلطان العادل ) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا [ ص: 434 ] يقبلون أطراف رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة أنه قال : تقبيل يد العالم والسلطان العادل سنة ، فقام nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك وقبل رأسه ، وتقبيل الأرض بين يدي السلطان أو بعض أصحابه ليس بكفر لأنه تحية وليس بعبادة ، ومن أكره على أن يسجد للملك الأفضل أن لا يسجد لأنه كفر ، ولو سجد عند السلطان على وجه التحية لا يصير كافرا .