الكلام منه ما يوجب أجرا كالتسبيح والتحميد ، وقراءة القرآن ، والأحاديث النبوية وعلم الفقه ، وقد يأثم به إذا فعله في مجلس الفسق وهو يعمله ، وإن سبح فيه للاعتبار والإنكار ، وليشتغلوا عما هم فيه من الفسق فحسن ويكره فعله للتاجر عند فتح متاعه ، ويكره الترجيع بقراءة القرآن والاستماع إليه . ومنه ما لا أجر فيه ولا وزر كقولك : قم واقعد ، وأكلت وشربت ونحوه ومنه ما يوجب الإثم كالكذب والنميمة والغيبة والشتيمة ، ثم الكذب محظور إلا في القتال للخدعة ، وفي الصلح بين اثنين ، وفي إرضاء الرجل الأهل ، وفي دفع الظالم عن الظلم ويكره التعريض بالكذب إلا لحاجة ; ولا غيبة لظالم يؤذي الناس بقوله وفعله ، ولا إثم في السعي به إلى السلطان ليزجره ولا غيبة إلا لمعلومين ، فلو اغتاب أهل قرية فليس بغيبة ; وإذا أدى الفرائض وأحب أن يتنعم بمنظر حسن وجوار جميلة فلا بأس به ، ومن قنع بأدنى الكفاية ، وصرف الباقي إلى ما ينفعه في الآخرة فهو أولى .
[ ص: 465 ] قال : ( ويكره فعله للتاجر عند فتح متاعه ) وكذلك الفقاعي عند فتح الفقاع يقول : لا إله إلا الله صلى الله على محمد فإنه يأثم بذلك لأنه يأخذ لذلك ثمنا ، بخلاف الغازي أو العالم إذا كبر عند المبارزة وفي مجلس العلم لأنه يقصد به التفخيم والتعظيم وإشعار شعائر الدين .
الجواب عن الآية من وجوه : أحدها : أنها سيقت على قوله : ( أم لم ينبأ بما في صحف موسى . وإبراهيم الذي وفى ) فيكون إخبارا عما في شريعتهما فلا يلزمنا ، كيف وقد روينا عن نبينا عليه الصلاة والسلام خلافه ؟ . قال علي رضي الله عنه : هذا لقوم إبراهيم وموسى ، وأما هذه الأمة لهم ما سعوا وسعي لهم . الثاني أنها منسوخة بقوله تعالى : ( ألحقنا بهم ذريتهم ) أدخل الذرية الجنة بصلاح الآباء ، قاله nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . الثالث قال nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس : المراد بالإنسان هنا الكافر ، أما المؤمن له أجر ما سعى وسعي له . الرابع تجعل اللام بمعنى على وأنه جائز . قال : فخر صريعا لليدين وللفم ، فيصير كأنه قال : وأن ليس على الإنسان إلا ما سعى فيحمل عليه توفيقا بين الآية والأحاديث ، ولأنه معنى صحيح لا خلاف فيه ولا يدخله التخصيص . الخامس أنه سعى في جعل ثواب عمله لغيره فيكون له ما سعى عملا بالآية . السادس أن السعي أنواع : منها بفعله وقوله ، ومنها بسبب قرابته ، ومنها بصديق سعى في خلته ، ومنها بما يسعى فيه من أعمال الخير والصلاح وأمور الدين التي يحبه الناس بسببها فيدعون له ويجعلون له ثواب عملهم وكل ذلك بسبب سعيه ، فقد قلنا بموجب الآية فلا يكون حجة علينا .
وأما الحديث فإنه يقتضي انقطاع عمله ولا كلام فيه إنما الكلام في وصول ثواب عمل غيره إليه ، والحديث لا ينفيه ، على أن الناس عن أخرهم قد استحسنوا ذلك فيكون حسنا بالحديث .
قال : ( ومنه ما لا أجر فيه ولا وزر كقولك : قم واقعد وأكلت وشربت ونحوه ) لأنه ليس بعبادة ولا معصية ، ثم قيل لا يكتب لأنه لا أجر عليه ولا عقاب . وعن محمد ما يدل عليه ، فقد روى عن هشام عن عكرمة عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : إن الملائكة لا تكتب إلا ما كان فيه أجر أو وزر ، وقيل يكتب لقوله تعالى : ( ونكتب ما قدموا وآثارهم ) الآية ، ثم يمحى مالا جزاء فيه [ ص: 467 ] ويبقى ما فيه جزاء ، ثم قيل يمحى في كل اثنين وخميس وفيهما تعرض الأعمال . والأكثرون على أنها تمحى يوم القيامة .
قال : ( ومنه ما يوجب الإثم كالكذب والنميمة والغيبة والشتيمة ) لأن كل ذلك معصية حرام بالنقل والعقل .
قال : ( ويكره التعريض بالكذب إلا لحاجة ) كقولك لرجل كل ، فيقول : أكلت يعني أمس فلا بأس به لأنه صادق في قصده . وقيل يكره لأنه كذب في الظاهر .
قال : ( ولا غيبة لظالم يؤذي الناس بقوله وفعله ) قال عليه الصلاة والسلام : " اذكروا الفاجر بما فيه لكي تحذره الناس " ( ولا إثم في السعي به إلى السلطان ليزجره ) لأنه من باب النهي عن المنكر ومنع الظلم . قال : ( ولا غيبة إلا لمعلومين ، فلو اغتاب أهل قرية فليس بغيبة ) لأن المراد مجهول فصار كالقذف ، وكره محمد إرخاء الستر على البيت لأنه نوع تكبر وفيه زينة ، ولا بأس بستر حيطان البيت باللبود ونحوه لدفع البرد لأن فيه منفعة ، ويكره للزينة وقد مر .
والذي يجب على المسلم أن يتمسك بخصال : منها التحرز عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن ; ومنها المحافظة على أداء الفرائض في أوقاتها بواجباتها تامة كما أمر بها; ومنها التحرز عن السحت واكتساب المال من غير حله ; ومنها التحرز عن ظلم كل مسلم أو معاهد ، وما عدا ذلك فقد وسع الله تعالى علينا الأمر فيه ، فلا نضيقه علينا ولا على أحد من المسلمين . وفي الحديث : " أن النبي عليه الصلاة والسلام وعظ الناس يوما وذكر القيامة ، فرق له الناس وبكوا ، فاجتمع عشرة في بيت nindex.php?page=showalam&ids=5559عثمان بن مظعون ، وهم أبو بكر وعلي nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر nindex.php?page=showalam&ids=13وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبو ذر nindex.php?page=showalam&ids=267وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد nindex.php?page=showalam&ids=23وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يترهبوا ويجبوا مذاكيرهم ويلبسوا المسوح ويصوموا الدهر ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم والودك ولا يقربوا النساء والطيب ويسيحوا في الأرض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا ؟ قالوا : بلى وما أردنا إلا خيرا ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني لم آمر بذلك ، ثم قال : إن لأنفسكم [ ص: 469 ] عليكم حقا ، فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا ، فإني أقوم وأنام وأصوم وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) . ثم خطب فقال : " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا ، أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا ، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، فإن سياحة أمتي الصوم ، ورهبانيتهم الجهاد ، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وحجوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا يستقم لكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد ، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم " ونزل قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ) إلى قوله : ( واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) .
تم الجزء الرابع من " الاختيار لتعليل المختار " ويليه : الجزء الخامس ، وأوله : كتاب الصيد .