وهذا الكتاب مشتمل على مقاصد ووسائل لتلك المقاصد ، والوسائل يتقدم فعلها شرعا ، فيجب تقدم الكلام عليها وضعا .
فأول الوسائل : محل الماء ، ولما كان استعمال الماء في الأعضاء يتوقف على طهارتها حتى يلاقي الماء الطهور الأعضاء الطاهرة وجب بيان الأعيان النجسة ما هي ، ثم كيفية إزالتها ، فهذه أربع وسائل .
[ ص: 165 ] الوسيلة الأولى :
محل الماء ، وهو الإناء ، وهو في اللغة مشتق من أنى يأني إنى ، وهو التناهي قال الله تعالى : (
غير ناظرين إناه ) . أي انتهاءه (
عين آنية ) أي متناه حدها ، و (
حميم آن ) أي متناه حره ، ولما كان الإناء لا بد أن يتناهى خرطه ، أو حرزه ، أو سبكه على حسب جوهره في نفسه سمي إناء لذلك ، وفيه ثلاثة فصول :
الفصل الأول : في الجلود ، وفي الجواهر ، ولا بد في استعمالها من طهارتها ، ولطهارتها سببان :
السبب الأول :
الذكاة مطهرة لسائر أجزاء الحيوان لحمه وعظمه وجلده ، وإن كان مختلفا في إباحة أكله كالحمر والكلاب والسباع على روايتي الإباحة والمنع ، لإزالة الذكاة الفضلات المستقذرة الموجبة للتنجيس على سائر الوجوه على الحيوان إلا الخنزير لقوله تعالى : (
قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس ) . والرجس في اللغة القذر ، فكما أن العذرة لا تقبل التطهير ، فكذلك الخنزير لأنه سوى بينه وبين الدم ولحم الميتة ، وهما لا يقبلان التطهير ، فكذلك هو .
ولأن الذكاة في الشرع سبب لحكمين : إباحة الأكل ، والطهارة ، والذكاة لا تفيد الإباحة فيه إجماعا ، فكذلك الطهارة ، ولهذا المدرك منع
ابن حبيب تطهير الذكاة لما لم يؤكل لحمه ، ووافقه
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ،
ولابن حبيب أيضا التفرقة بين العادية وغيرها ، وزاد
أبو حنيفة علينا بطهارة اللحم مع الجلد ، وإن قال بتحريم أكله .
ومنع
مالك - رحمه الله - الصلاة على جلود الحمر الأهلية ، وإن ذكيت ، وتوقف
[ ص: 166 ] في الكيمخت في الكتاب . قال صاحب الطراز ، وروي عنه الجواز ، ومنشأ الخلاف هل هي محرمة ، فلا تؤثر الذكاة فيها كالخنزير ، أو مكروهة فتؤثر كالسباع ؟ والكيمخت يكون من جلود الحمر ، ومن جلود البغال قال : وقد أباحه مرة ، وأجاز الصلاة فيه على ما في العتبية .
السبب الثاني :
الدباغ في الجواهر ، وهو استعمال ما فيه قبض وقوة على نزع الفضلات ، وهو مختلف بحسب غلظ الجلد ، ورقته ، ولينه ، وصلابته ، قال
ابن نافع : ولا يكفي التشميس ، وهو مطهر لجملة الجلود إلا الخنزير للآية المتقدمة ، ولأن الذكاة أقوى من الدباغ لاقتضائها إباحة الأكل مع التطهير ، ولنزعها الفضلات من معادنها قبل تشبثها بأجزاء الحيوان ، وغلظها ، وقد سقط اعتبارها في الخنزير ، فكذلك الدباغ .
وطهارة غير الخنزير مخصوصة عنده بالماء ، واليابسات دون المائعات والصلاة والبيع لأن قوله عليه السلام :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348197أيما إهاب دبغ ، فقد طهر . مطلق في الطهارة ، وإن كان عاما في الأهب ، والأصل في الميتة النجاسة ، فيتعين الماء لمطلق الطهارة لقوته ، واليابسات لعدم مخالطها ، وبقي ما عدا ذلك على الأصل .
وعنه أنها عامة لزوال السبب المنجس ، وهو الفضلات المستقذرة ، ولأن الدباغ يرد الأشياء إلى أصولها قبل الموت ، والحيوانات عندنا طاهرة قبله ، فكذلك بعده بالدباغ ، ولهذا المدرك قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - : لا يطهر الكلب والخنزير بالدباغ لأنهما نجسان قبل الموت عنده ، وقال
أبو يوسف ،
وداود : يؤثر الدباغ في جلد الخنزير ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور : لا يؤثر إلا فيما يؤكل لحمه ، ومنشأ الخلاف هل يشبه الدباغ بالحياة ، أو بالذكاة ، وهو مذهبنا .
[ ص: 167 ] قاعدة :
إزالة النجاسة تارة تكون بالإزالة كالغسل بالماء ، وتارة بالإحالة كالخمر إذا صار خلا ، أو العذرة إذا صارت لحم كبش ، وتارة بهما كالدباغ ، فإنه يزيل الفضلات ، ويحيل الهيئات ، أو لأنه يمنعه من الفساد كالحياة .