البحث الخامس :
فيما يفتقر إلى النية الشرعية :
الأعمال كلها إما مطلوب ، أو مباح ، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى ، فلا معنى للنية فيه ، والمطلوب نواه ، وأوامر .
فالنواهي كلها يخرج الإنسان عن عهدتها ، وإن لم يشعر بها ، فضلا عن القصد إليها ؛ مثاله :
زيد المجهول لنا حرم الله علينا دمه ، وماله ، وعرضه ، وقد خرجنا عن عهدة ذلك النهي ، وإن لم نشعر به ، وكذلك سائر المجهولات .
نعم : إن شعرنا بالمحرم ، ونوينا تركه لله تبارك وتعالى حصل لنا مع الخروج عن العهدة الثواب لأجل النية ، فهي شرط في الثواب لا في الخروج عن العهدة .
والأوامر على قسمين : الأول منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون ، والودائع ، والغصوب ، ونفقات الزوجات ، والأقارب ، فإن المصلحة المقصودة من هذه الأمور انتفاع أربابها ، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل لها فيخرج الإنسان عن عهدتها ، وإن لم ينوها .
والقسم الثاني من الأوامر ما تكون صورة فعله ليست كافية في تحصيل مصلحته المقصودة منه كالصلوات ، والطهارات ، والصيام ، والنسك ، فإن المقصود منها تعظيمه تعالى بفعلها ، والخضوع له في إتيانها ، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله سبحانه وتعالى ، فإن التعظيم بالفعل بدون قصد المعظم محال كمن صنع ضيافة لإنسان انتفع بها غيره ، فإنا نجزم بأن المعظم الذي قصد إكرامه هو الأول دون الثاني ، فهذا القسم هو الذي أمر فيه الشرع بالنيات ، وعلى هذه القاعدة يتخرج خلاف العلماء في إيجاب النية في إزالة النجاسة ، فمن اعتقد أن الله تعالى أوجب على عباده مجانبة الحدث ، والخبث حالة المثول بين يديه تعظيما له فيكون من باب المأمورات التي لا تكفي صورتها في تحصيل مصلحتها ، فتجب فيها النية ،
[ ص: 246 ] ومن اعتقد أن الله تعالى حرم على عباده ملابسة الخبث فيكون عنده من باب المنهيات ، فلا يفتقر إلى النية ، وهو الصحيح .