النظر الثالث : في أحكام السرقة .
وهي خمسة عشر حكما :
الأول : في الكتاب :
سرق مرة بعد مرة ، قطعت يده اليمنى ، ثم رجله اليسرى ، ثم يده اليسرى ، ثم رجله اليمنى . ووافقنا العلماء في تقديم اليد اليمنى ;
[ ص: 182 ] لقول
أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - : إن سرق السارق ، فاقطعوا يمينه . ولأنها آلة السرقة ، فيناسب إعدامها . والتثنية باليسرى قول الجماعة إلا
عطاء ، قال : اليد اليسرى ; لقوله تعالى : (
فاقطعوا أيديهما ) ; ولأنها آلة السرقة . لنا قوله - عليه السلام - : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349904إذا سرق السارق ، فاقطعوا رجله ) . وقياسا على الحرابة ، ولأن قطع يده تفويت منفعة الجنس ، فلا تبقى له يد يأكل بها ، ولا يتوضأ ، ولا يدفع عن نفسه ، فيصير كالهالك . والمراد بالآية : قطع يمين كل واحد من السارقة والسارق ، بدليل أنه لا تقطع اليدان في المرة الأولى . وفي قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : ( فاقطعوا أيمانهما ) ، وهو إما قرآن أو تفسير ، وإنما ذكر بلفظ الجمع ; لأن كل مثنى أضيف إلى مثنى هو بعضه ليس في الجسد منه إلا واحد ، ففيه ثلاث لغات : الإفراد ، والتثنية ، والجمع - وهو الأفصح - لئلا يجتمع تثنيتان في شيء واحد ، كقوله تعالى : (
فقد صغت قلوبكما ) ، وتعينت اليسرى في الرجلين ; لقوله تعالى : (
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ) ; ولأنه أرفق به لتعويضها بحسبه ، ولو قطعت اليمنى تعذر المشي . وقال
أحمد و ( ح ) : لا تقطع إلا يد ورجل ، فإن عاد ، حبس . ووافقنا ( ش ) في قطع الأربع . وفي
أبي داود قال - عليه السلام - في السارق : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349905إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ، ثم إن سرق فاقطعوا يده ، ثم إن سرق فاقطعوا رجله ) .
احتجوا بأن
عليا - رضي الله عنه - أتي برجل مقطوع اليد والرجل ، قد سرق ، فقال لأصحابه : ما ترون في هذا ؟ قالوا : اقطعه يا أمير المؤمنين ، قال : قتلته إذا وما
[ ص: 183 ] عليه القتل ، بأي شيء يأكل الطعام ؟ بأي شيء يتوضأ للصلاة ؟ بأي شيء يغتسل من جنابته ؟ بأي شيء يقوم على حاجته ؟ فرده للسجن أياما ، ثم أخرجه ، فاستشار أصحابه ، فقالوا مثل قولهم الأول ، وقال لهم مثل قوله الأول ، فجلده جلدا شديدا ، ثم أرسله ; ولأن فيه تفويت للجنس ، فلا يشرع كالقتل .
والجواب عن الأول : أن قوله معارض بقول الصحابة ، بل هم أرجح ; لأن يد الله مع الجماعة .
وعن الثاني : الفرق ببقاء الحياة والاغتذاء ، والحواس ، وأنواع التعبد بالصوم وغيره ، فإن
سرق ولا يمين له ، أو له يمين شلاء ، قطعت رجله اليسرى ، ( قاله
مالك قياسا على تقدم القطع ) ، ثم عرضتها ، فقال امحها ، وقال : تقطع يده اليسرى ، وتأول قوله عز وجل : (
فاقطعوا أيديهما ) . قال
ابن القاسم : والأول أحب إلي ، وإن سرق من لا يدين له ولا رجلين ، أو أشل اليدين والرجلين ، فاستهلكها وهو عديم ، لم يقطع منه شيء ، ولكن يضرب ويضمن قيمة السرقة ، وإن سرق ، وقد ذهبت من يمنى يديه أصبع : قطعت يده ، كما لو قطع يمين رجل وإبهامه مقطوعة ، فيقطع ، وإن لم تبق منها إلا أصبع أو أصبعان : قطعت رجله اليسرى ، وإن كانت يداه ورجلاه كلها كذلك ، لم يقطع ، وضرب وسجن ، وضمن قيمة السرقة . قال
ابن يونس : قال
مالك : يحسم موضع القطع بالنار ، وقاله الأئمة ، لما روي : (
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بسارق سرق شملة ، فقال : اقطعوه واحسموه . والقطع في اليدين من مفصل الكوع ، وفي الرجلين من مفصل الكعبين ، وكذلك الحرابة ، وقاله الأئمة ; لأنه الذي مضى به
[ ص: 184 ] العمل ، وعن
علي - رضي الله عنه - من مقعد الشراك في الرجل ; ليبقى عقبه يمشي عليه . وعن
أبي مصعب : إن سرق الخامسة ، قتل لحديث ليس بالثابت ، ومقطوع أصبع من يده يقتص منها وفيها ، وتلغى الأصابع . قال
اللخمي : اختلف في خمسة مواضع : إن سرق ولا يمين له ، أو شلاء ، أو ذهبت منها أصبعان ، أو قطعت الشمال مع وجود اليمنى ، وإن سرق بعد قطع أطرافه ، ومتى
كان أعسر قطعت اليسرى مع وجود اليمنى ; لأنها كاليمين له ، فإن كانت اليمنى شلاء ، قال
أبو مصعب : تقطع الشلاء ; لأنها التي يتناولها النص ، وقال
ابن وهب : تقطع إن كان ينتفع بها . وعلى هذا إن كان أعسر ، قطعت اليمنى ; لأنه ينتفع باليسرى ، وإن
ذهب أصبعان ، قال : لا يقطع إلا رجله ويده اليسرى ، وعنه : إن بقي أكثرها قطعت ، فإن أخطأ الإمام ، فقطع يسراه مع وجود اليمين ، قال
مالك : لا يقطع يمينه ; لحصول المقصود ، وقال
عبد الملك : تقطع ; لأن الخطأ لا يزيل الحد . وعقل الشمال في مال السلطان إن كان هو القاطع ، وإلا ففي مال القاطع ، ( وإليه رجع
مالك ) . وإذا
قطعت اليسرى في سرقة ، ثم سرق فعلى قول
ابن القاسم ، تقطع رجله اليمنى ; ليكون من خلاف ، وعن
ابن نافع : رجله اليسرى ، فإن دلس السارق باليسرى ، فقطعت أجزأه ، ( قاله في الموازية ) . وعلى هذا تكون البداية باليمنى مستحبة ، وعلى ما عند
ابن حبيب : لا تجزئه ، فعلى هذا يكون واجبا ; لأن فعل النبي - عليه السلام - وقع بيانا للقرآن . وقد قال
مالك : إن ذهبت اليمنى بعد السرقة بأمر سماوي أو جنابة ، لا يقطع منه شيء ; لتعين القطع لها وقد ذهبت . وعلى القول بإجزاء الشمال ، لا يسقط القطع . وإن سرق ، وقطع يمين رجل ، قطع
[ ص: 185 ] للسرقة ، وسقط القصاص - وهو على القول بتعينها للقطع ، وعلى القول بأن تبدئتها مستحبة ، تقطع قصاصا - وتقطع يسراه أو رجله للسرقة .
فائدة : أنشد
nindex.php?page=showalam&ids=11880المعري :
يد بخمس مئين عسجد فديت ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكوت له
فنستعيذ ببارينا من النار
فأجابه القاضي
عبد الوهاب المالكي - رضي الله عنه - :
صيانة العضو أغلاها وأرخصها خيانة المال فافهم حكمة الباري
نظائر : قال
ابن بشير : الممحوات في المدونة أربعة : إذا ولدت الأضحية ، فحسن أن يذبح ولدها معها ، وإن أبى ، لم أر ذلك عليه واجبا ، ثم عرضتها عليه ، فقال : امحها واترك ، إن ذبحه معها ، فحسن . والحالف : لا يكسو امرأته ، فافتك لها ثيابها من الراهن ، حنث . والمريض لا يجوز نكاحه أو المريضة ، ويفسخ إن دخلا ، وكان يقول : ولا يثبت ، وإن صحا ، ثم قال : امحها . وأرى إذا صحا ثبت . ومن سرق ولا يمين له ، أو له يمين شلاء
[ ص: 186 ] قطعت رجله اليسرى ، ثم عرضها عليه ، فمحاها ، فقال : تقطع يده اليسرى . وبالأول قال
ابن القاسم :