[ ص: 25 ] الباب الخامس
في مدارك البر والحنث
وهي أربعة عشر مدركا : المدرك الأول : النية ، واعلم أن
الحنث في اللغة لفظ مشترك بين الإثم - ومنه : بلغ الصبي الحنث أي زمانا يكتب عليه الإثم - وبين المخالفة لليمين . قال
الجوهري : والبر في اللغة ضد العقوق ، ومنه : بر الوالدين أي موافقتهما ، فالموافق لمقتضى اليمين بار ، والمخالف حانث ، سواء كان آثما أم لا . قال
الجوهري : وللبر لفظان : لا فعلت ، وإن فعلت ، ويجمعهما التزام عدم الفعل ، وللحنث لفظان : إن لم أفعل ، ولأفعلن ، ويجمعهما التزام وجود الفعل ، فهو الآن على خلاف مقتضى اليمين بخلاف الأول فلذلك قيل له : هو على حنث إلا أن يضرب أجلا ، فهو على بر ; لأنه إنما التزم أن لا يخلي ذلك الزمان من الفعل ، ولم يتعين خلوه إلا بمضي الزمان ، وفي ( الجواهر ) : النية تقيد المطلقات وتخصص العمومات إذا صلح لها اللفظ ، كانت مطابقة له أو زائدة فيه أو ناقصة منه ، قال
اللخمي هي ثلاثة أقسام : إن كانت في الطلاق أو العتاق ، وأحلفه الطالب لم يصدق في بينة ، وقضي بالظاهر ، فإن لم تكن عليه بينة ، أو يمينه مما لا يقضى بها ، فهل هي على نية الطالب أو الحالف ؟ قولان .
وإن تطوع باليمين وكان له التخلص بغيرها ، فله نيته ، وقيل : على نية الطالب ، وإن دفع بها ظلما ، فله نيته ، وإن
حلف بالحرام على قضاء حق ، قال
مالك : لا تنفعه محاشاة زوجته . قال
ابن القاسم : وسواء استحلفه الطالب ، وضيق عليه حتى بدر باليمين ، وإن حلف بها ابتداء من غير طلب ، ولا إلجاء ، فله نيته ، وروي عن
مالك : تنفعه المحاشاة في الحرام وإن كان مستحلفا للخلاف في الحرام بخلاف غيره . قال
أبو الطاهر : إذا
[ ص: 26 ] لم تحضره بينة ، ففي ظاهر المذهب قولان ، والصحيح : قبولها إذا ظهر لها محمل ، وإن احتملها اللفظ على قرب قبلت إن لم تقم بينة قولا واحدا ، وإلا قضي بمقتضى اللفظ حيث وجد .
قال صاحب ( الإكمال ) : لا خلاف أن
المستحلف في حق يقضى عليه بظاهر يمينه ، فأما بينه وبين الله تعالى ، ففي حنثه أقوال . قال
مالك وابن القاسم : الحلف على نية المستحلف ، وقيل : على نية المحلوف له مطلقا استحلف أم لا ، وقيل : على نية الحالف ، وقيل عكس قول
مالك ، للمستحلف نيته ، والمتطوع على نية المحلوف له ، وقيل : ينفعه فيما لا يقضى عليه ، ويفترق المتطوع وغيره فيما يقضى به ، وهو مروي عن
ابن القاسم أيضا .
قاعدة : يجوز - عندنا - التقييد والتخصيص في مدلول اللفظ المطابقي ، والتضميني ، والالتزامي ، وقاله ( ش ) ، وقال ( ح ) : لا يجوز في الالتزامي ، ويتخرج على الخلاف في الحالف لا آكل ، فيجوز له عندنا تخصيصه ، أو تقييده إن قيل بعدم العموم ببعض المأكولات ، فلا يحنث بما سواه ، وعنده لا يجوز ; لأن الفعل إنما يدل على المأكولات التزاما ، فيحنث عنده بجملة المأكولات ، ولا تنفعه النية .
لنا مدركان : أحدهما قوله تعالى : (
لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ) ( يوسف : 66 ) أخرج حالة الإحاطة من الحالات التي لم يدل عليها اللفظ إلا التزاما ، فكذلك يصح الإخراج بالنية لبعض المفاعيل والأزمنة والبقاع بجامع احتياج المكلف إلى تمييز موضع المصلحة ، وكلاهما إخراج الثاني ، ووافقنا على ما إذا قال : لا آكل أكلا ، أن النية تنفعه ، والأكل إنما يدل على المأكولات التزاما ، وهو بعينه المراد بالفعل .
تنبيه : يسأل الحالف باللفظ العام ، فإن قال : أردت بعض أنواعه لا يلتفت لنيته ، ويعتبر عموم لفظه ; لأن هذه النية مؤكدة للفظ في ذلك النوع غير صارفة له عن بقية الأنواع ، ومن شرط النية المخصصة أن تكون صارفة ، فإن قال : أردت إخراج ما عدا هذا النوع حملت يمينه على ما بقي بعد الإخراج ، ومن شرط النية المخصصة أن تكون منافية لمقتضى اللفظ بخلاف المقيدة ، وقاله الأئمة ، وهذا مقام لا يحققه أكثر مفتي العصر .