الركن الثالث :
الموقوف ، وفي الكتاب
وقف الرقيق والدواب والثياب والسروج في سبيل الله ، ويستعمل ولا يباع ، قال
اللخمي : الحبس ثلاثة أقسام ؛ الأول الأرض ونحوها فالديار والحوانيت والحوائط والمساجد والمصانع والآبار
[ ص: 313 ] والقناطر والمقابر والطرق فيجوز ، والثاني : الحيوان كالعبد والخيل وغيرها ، والثالث : السلاح والدروع ، وفيها أربعة أقوال : الجواز في الكتاب ، وقاله ( ش )
وأحمد ; لأن كل عين يصح الانتفاع بها مع بقاء عينها صح وقفها ; لأنه موف بحكمة الوقف ، وقيل يمتنع ، وقاله ( ح ) ، ومنع وقف المنقولات ; لأن وقف السلف كان في العقار وقياسا على الطيب . والجواب عن الأول أن المقداد حبس أدرعه في سبيل الله وهي منقولات ، وعن الثاني الفرق بأن الطيب لا يبقى عينه ، بخلاف صورة النزاع ، وقيل يجوز في الخيل ، وإنما الخلاف في غيرها ، وعن
مالك استثقال حبس الحيوان ، وقال في الرقيق منعه ما يرجى له من العتق ، وظاهره يقتضي تخصيص الكراهة للرقيق ، وفي
مسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=10349501أن عمر - رضي الله عنه - أصاب أرضا بخيبر فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها ، فقال : إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " ، فتصدق بها لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، ويطعم صديقا غير متمول فيها ، وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349502من حبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصديقا بوعده ، فإن شبعه وروثه في ميزانه يوم القيامة " ، وفيه أن
خالدا حبس درعه وأعمره في سبيل الله ، وفي
مسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348784إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ؛ علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية " يريد الحبس ، ووقف
عثمان وطلحة والزبير nindex.php?page=showalam&ids=47وزيد بن ثابت nindex.php?page=showalam&ids=59وعمرو بن العاص ، وكل من له ثروة من الصحابة وقف - رضي الله عنهم أجمعين - ، وقال
شريح : لا حبس عن فرائض الله ، فقيل
لمالك ذلك ، فقال : تكلم
شريح في بلده ولم يقدم
المدينة فيرى أحباس الصحابة وأزواجه - عليه السلام - ، وهذه أوقافه - عليه السلام - تسعة .
[ ص: 314 ] فوائد ، إحداها : قوله - عليه السلام - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10349503انقطع عمله " ليس على ظاهره ، بل المراد ثواب عمله ؛ إذ العمل عرض لا يستمر ، بل يذهب زمانه به فالإخبار عنه عبث .
وثانيها : أنه يثاب في هذه الصور ثواب الوسائل ، فإن تعليمه وإقراءه وتصانيفه أسباب للانتفاع بها بعد موته ، ودعاء الولد ناشئ عن سببه في النسل ، والاتفاق بالوقف ناشئ عن تحبيسه ؛ فالكل في كسبه وتسببه .
وثالثها : أن الدعاء ليس خالصا بالولد ، بل كل من دعا لشخص رجاء نفعه بدعائه ؛ قريبا كان أو أجنبيا ، وليس المراد أن ثواب الدعاء يحصل للمدعو له ، بل متعلق الدعاء ومدلوله لغة فصار ذكر الولد معهما مشكلا ، وجوابه أن الولد أكثر دعاء ; لأن داعية القرابة تحثه ، بخلاف غيره ، ولذلك خصصه بالصالح ; لأن الصلاح مع البنوة مظنة كثرة الدعاء وإجابته فكان أولى بالذكر من غيره .
فرع
في الجواهر : يصح
وقف الشائع ؛ وقاله ( ش )
وأحمد ، ومنعه
محمد بن الحسن لتعذر القبض عنده فيه ، لنا أن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقف مائة سهم من
خيبر بإذنه - عليه السلام - - ; ولأنه ممكن القبض اللائق به كالبيع ، وقياسا على العتق ، قال
اللخمي في كتاب الشفعة : إن كانت الدار تحمل القسم جاز لعدم تضرر الشريك إن كره قاسم بعد الحبس ، وإلا فله رد الحبس ; لأنه لا يقدر على البيع لجميعها ، فإن فسد فيها شيء لم يجد من يصلح معه ، وإذا كان علو لرجل وسفل لآخر ، لصاحب العلو رد تحبيس السفل ; لأنه لا يجد من يصلح له السفل إذا احتاج إليه ومن حقه أن يحمل له علوه ولصاحب السفل
[ ص: 315 ] رد تحبيس العلو ; لأنه قد يخلق فيسقط عليه ، ولا يجد من يصلح ، وتحبيس شرك من حائط فهو كما تقدم في الدار .
فرع
قال : يجوز
وقف الأشجار لثمارها والحيوانات لمنافعها وأصوافها وألبانها واستعمالها ، وإذا قلنا بالجواز في الحيوان وقع لازما ، أو بالكراهة وفي اللزوم روايتان .
فرع
قال : ويمتنع
وقف الدار المستأجرة لاستحقاق منافعها للإجارة ، فكأنه وقف ما لا ينتفع به ، ووقف ما لا ينتفع به لا يصح ، ويمتنع وقف الطعام ; لأن منفعته في استهلاكه ، وشأن الوقف بقاء العين .
الركن الرابع :
ما به يكون الوقف ، وفي الجواهر : هو الصيغة ، أو ما يقوم مقامها في الدلالة على الوقفية عرفا ، كالإذن المطلق في الانتفاع على الإطلاق ، كإذنه في الصلاة في المكان الذي بناه لها إذنا لا يختص بشخص ولا زمان ، ووافقنا ( ح )
وأحمد ، وقال ( ش ) لا يعتبر إلا بالقول على قاعدته في اعتبار الصيغ في العقود لنا أنه - عليه السلام - كان يهدي ويهدى إليه ، ووقف أصحابه ولم ينقل أنه قبل ولا قبل منه ، بل اقتصر على مجرد الفعل ، ولو وقع ذلك اشتهر ; ولأن مقصود الشرع الرضى بانتقال الأملاك لقوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348500لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه منه " ، فأي شيء دل على حصول مقصود الشرع كفى .
[ ص: 316 ] فرع
قال في الجواهر :
لا يشترط في الصحة القبول إلا إذا كان الموقوف عليه معينا ، أهلا للقبول والرد ، فيشترط في نقل الملكية إليه القبول كالبيع ، وإلا فلا كالعتق ، واختلف هل قبوله شرط في اختصاصه خاصة ، أو في أصل الوقفية ، قال
مالك : إذا قال اعطوا فرسي لفلان ، إن لم يقبل أعطي لغيره كان حبسا ، وقال
مطرف : يرجع ميراثا لعدم شرط الوقف ، وقال ( ش )
وأحمد لا يشترط القبول في الوقف قياسا على العتق .
فرع
قال : الألفاظ قسمان ؛ مطلقة مجردة نحو : وقفت وحبست وتصدقت ، وما يقترن به مما يقتضي التأييد نحو : محرم لا يباع ولا يوهب ، وأن يكون على مجهولين أو موصوفين كالعلماء والفقراء فيجري مجرى المحرم باللفظ ; لأن التعيين يشعر بالعمرى دون الحبس ، ولفظ الوقف يفيد بمجرده التحريم ، وفي
الحبس والصدقة روايتان ، وكذلك في ضم أحدهما للآخر خلاف إلا أن يريد بالصدقة هبة الرقبة فلا يكون وقفا ، وحيث قلنا لا يتأبد يرجع بعد الوجه الذي عين له حبسا على أقرب الناس بالمحبس ؛ كان المحبس حيا أو ميتا ، إن كانوا فقراء ، فإن كانوا أغنياء فأقرب الناس إليهم من الفقراء ; لأن أصل الحبس مبني على سد خلة حاجة الموقوف عليه ، قال
ابن القاسم : كل ما يرجع ميراثا يراعى فيه من يرث المحبس يوم مات ، وما يرجع حبسا فلأولاهم به يوم المرجع ، والقرابة الذين يرجع إليهم هم عصبة المحبس الميت ؛ قاله
مالك ، وقال
ابن القاسم : يرجع لأقرب الناس من ولد عصبته ، وإذا قلنا يرجع للعصبة اختلف
[ ص: 317 ] هل للنساء فيه مدخل أم لا ؟ ففي كتاب
محمد دخولهن ، وعن
ابن القاسم عدم دخولهن ، وقال
أصبغ : البنت كالعصبة ; لأنها لو كانت رجلا كانت عصبة ، وعن
مالك : كل امرأة لو كانت رجلا كانت عصبة يرجع إليها الحبس ، وإذا قلنا بالدخول فاجتمع بنات وعصبة فهو بينهم إن كان فيه سعة ، وإلا فالبنات أولى لقربهن ، وتدخل مع البنات الأم والجدة للأب دون الزوجة والجدة أم الأم لعدم التعصب لو كانتا رجلا ؛ قاله
ابن القاسم ، فإذا انقرض جميع أصحاب المرجع صار حبسا على المساكين ، قال صاحب المقدمات : لفظ الحبس والوقف سواء لا يفترقان في وجه من وجوه الحبس ، وقاله ( ش )
وأحمد ، وقال
عبد الوهاب : الوقف لا يقع إلا محرما فهو أقوى لمساك وليس بصحيح ، ولهذه الألفاظ ثلاثة أحوال بحسب المحبس عليه : الحال الأولى أن يحبس على معين ، فهو يرجع بعد موت المحبس عليه حبسا على أقرب الناس بالمحبس ; لأنه حبس محرم ، أو يرجع بعد موت المحبس عليه ملكا لأقرب الناس بالمحبس - بناء على أنها عمرى ، قولان
لمالك في المدونة - وسواء قال حياته ، أو لم يقل ، وقيل إن قال حياته رجع بعد موته إلى المحبس ملكا وإلا رجع مرجع الأحباس ; لأن التحديد يشعر بالتعمير ، والتسوية هي ظاهر المدونة ، قال : أكره لقوله صدقة محرمة لا تباع ، فحكى
ابن القاسم أنه لم يختلف قول
مالك في أنه حبس محرم يرجع مرجع الأحباس وليس كذلك ، بل روى
nindex.php?page=showalam&ids=16991ابن عبد الحكم عن
مالك : يرجع بعد موت المحبس ملكا إذا كان على معين . الحالة الثانية : أن يحبس على مجهولين غير معينين ولا محصورين ، نحو المساكين وفي السبيل موقف محرم اتفاقا . الحالة الثالثة : يحبس على محصورين غير معينين نحو : على ولد فلان ، أو عقبه ، فحبس محرم اتفاقا ، ويرجع بعد انقراضهم حبسا على أقرب الناس بالمحبس إلا أن يقول حياتهم ، فقال
عبد الملك : يرجع ملكا إليه بعد انقراضهم ، وأما لفظ
[ ص: 318 ] الصدقة فلها ثلاث حالات أيضا : إن كان على معين فله بيعها وتورث عنه وهي تملك اتفاقا .
الحالة الثانية : غير معينين ولا محصورين فتباع ويتصدق بها عليهم بالاجتهاد ، إلا أن يقول يسكنونها ، أو يستغلونها فيكون حبسا على ذلك .
الحالة الثالثة : على محصورين غير معينين ، فهل يكون لآخرهم ملكا ، أو يرجع مرجع الأحباس حبسا على أقرب الناس بالمتصدق ؛ قولان
لمالك ، أو إعمار يرجع بعد انقراضهم إلى المتصدق ؛ قول ثالث ، ووافقنا ( ش )
وأحمد في أن لفظ الحبس والوقف صريح ، وزادا لفظ السبيل لوضع الأولين لغة لذلك ، وورد الثالث في السنة ؛ حيث قال - عليه السلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10348889حبس الأصل وسبل الثمرة .