الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار

ابن عبد البر - أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر

صفحة جزء
1558 1532 - مالك عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ؛ أنه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف .


[ ص: 61 ] 35376 - قد مضى في هذا الباب من إثبات الرجم على من أحصن من الزناة الأحرار ما أغنى عن إعادته هنا .

35377 - واختلف الفقهاء في حد الإحصان الموجب للرجم :

35378 - فجملة مذهب مالك في ذلك ؛ أن يكون الزاني حرا ، مسلما ، بالغا ، عاقلا ، قد وطئ قبل أن يزني وطئا مباحا ، في عقد نكاح صحيح ، ثم زنى بعد ذلك ، فإذا [ ص: 62 ] كان هذا ، وجب الرجم .

35379 - ولا يثبت لكافر ، ولا لعبد عنده إحصان ، كما لا يثبت عند الجميع ؛ لصبي ، ولا مجنون ، إحصان .

35380 - وكذلك الوطء المحظور كالوطء في الحج ، وفي الصيام ، وفي الاعتكاف ، وفي الحيض لا يثبت به عنده إحصان .

35381 - والأمة ، والكافرة ، والصغيرة ، لا تحصن الحر المسلم ، عند مالك ؛ لأنه لا يجتمع فيهن شروط الإحصان .

35382 - وهذا كله مذهب مالك وأصحابه .

35383 - وأما أبو حنيفة ، وأصحابه ؛ فحد الإحصان عندهم على ضربين .

35384 - ( أحدهما ) : إحصان يوجب الرجم ، يتعلق بست شروط : الحرية ، والبلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والنكاح الصحيح ، والدخول ، ولا يراعون وطئا محظورا مع ذلك ، ولا مباحا .

35385 - ( والآخر ) : إحصان يتعلق به حد القذف ، له خمس خصال عندهم : الحرية ، والبلوغ ، والعقل ، والإسلام ، والعفة .

35386 - وروى أبو يوسف ، عن ابن أبي ليلى ، قال : إذا زنى اليهودي ، أو النصراني ، بعد ما أحصنا ، فعليهما الرجم .

35387 - قال أبو يوسف : وبه نأخذ .

35388 - فالإحصان عند هؤلاء له أربعة شروط : الحرية ، والبلوغ ، والعقل ، [ ص: 63 ] والوطء في النكاح الصحيح .

35389 - ونحو هذا قول الشافعي ، وأحمد بن حنبل .

35390 - قال الشافعي : إذا دخل الرجل بامرأته ، وهما حران ، ووطئها ، فهذا إحصان ؛ مسلمين كانا ، أو كافرين يعني : إذا كانا في حين الزنا ، بالغين .

35391 - واختلف أصحابه ، على أربعة أوجه :

35392 - فقال بعضهم : إذ تزوج العبد ، أو الصبي ، ووطئ ، فذلك إحصان ، إذا زنى بعد البلوغ ، والحرية .

35393 - وقال بعضهم : لا يكون واحد منهم محصنا ، كما قال مالك .

35394 - وقال بعضهم : إذا تزوج الصبي الحر أحصن ، فإذا بلغ وزنى ، رجم ، والعبد لا يحصن حتى يعتق بالغا ، ويزني بعد .

35395 - وقال بعضهم : إذا تزوج الصبي ، لم يحصن ، وإذا تزوج العبد أحصن .

35396 - وقالوا جميعا : الوطء الفاسد لا يقع به إحصان .

35397 - وقد تقدم في كتاب النكاح من أقوال العلماء ، في الإحصان ، أكثر من هذا ، وتقصينا ذلك في " التمهيد " .

35398 - وأما قوله في هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه : " أو قامت عليه البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف " ، فأجمع العلماء ، أن البينة في الزنا أربعة شهداء ، [ ص: 64 ] رجال ، عدول ؛ يشهدون بالصريح من الزنا ، لا بالكناية ، وبالرؤية كذلك ، والمعاينة .

35399 - ولا يجوز عند الجميع في ذلك ، شهادة النساء ؛ فإذا شهد بذلك ، من وصفنا ، على من أحصن ، كما ذكرنا ، وجب الرجم ، على ما قال عمر - رضي الله عنه - .

35400 - وأما الاعتراف ؛ فهو الإقرار من البالغ ، العاقل بالزنا ، صراحا لا كناية ، فإذا ثبت على إقراره ، ولم ينزع عنه ، وكان محصنا ، وجب عليه الرجم ، وإن كان ‌‌بكرا ، جلد مائة . وهذا كله ، لا خلاف فيه بين العلماء .

35401 - وأما الحمل الظاهر للمرأة ولا زوج لها يعلم ، فقد اختلف العلماء في ذلك :

35402 - فقالت طائفة : الحبل والاعتراف والبينة سواء ، فيما يوجب الحد في الزنا ، على حديث عمر هذا ، في قوله : إذا قامت عليه البينة ، أو كان الحبل ، أو الاعتراف ، فسواء في ذلك فيما يوجب الرجم ، على من أحصن ، فوجبت التسوية بذلك .

[ ص: 65 ] 35403 - وممن قال ذلك ؛ مالك بن أنس ، فيما ذكر عنه ابن عبد الحكم ، وغيره ، وذكره في " موطئه " قال : إذا وجدت المرأة حاملا ، فقالت : تزوجت . أو استكرهت ، لم يقبل ذلك منها ، إلا بالبينة على ما ذكرت ، إلا أن تكون جاءت تستغيث ، وهي تدمى ، أو نحو ذلك من فضيحة نفسها ، فإن لم يكن ذلك ، أقيم عليها الحد .

35404 - وقال ابن القاسم : إذا كانت طارئة غريبة ، فلا حد عليها .

35405 - وهو قول عثمان البتي .

35406 - وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما : لا حد عليها إلا أن تقر بالزنا ، أو يقوم عليها بذلك بينة .

35407 - ولم يفرقوا بين طارئة ، وغير طارئة ؛ لأن الحمل دون إقرار ، ولا بينة ، ممكن أن تكون المرأة فيما ادعته من النكاح ، أو الاستكراه ، صادقة ، والحدود لا تقام إلا باليقين ، بل تدرأ بالشبهات .

35408 - فإن احتج محتج بحديث عمر المذكور ، وتسويته فيه بين البينة والإقرار والحبل ، قيل له : قد روي عنه خلاف ذلك من رواية الثقات أيضا .

35409 - وروى شعبة بن الحجاج ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن نزال بن صبرة ، قال : إني لمع عمر - رضي الله عنه - بمنى ، إذا بامرأة ضخمة حبلى ، قد كاد الناس أن يقتلوها من الزحام ، وهي تبكي فقال لها عمر : ما يبكيك ، إن المرأة ربما استكرهت ، فقالت إني امرأة ثقيلة الرأس ، وكان الله - عز وجل - يرزقني من الليل ما شاء أن يرزقني ، فصليت ونمت ، فوالله ما استيقظت إلا ورجل قد ركبني ، ومضى ، ولا [ ص: 66 ] أدري أي خلق الله هو ؟ . فقال عمر : لو قتلت هذه ، خفت على من بين الأخشبين النار ، ثم كتب إلى الأمراء : ألا لا تعجلوا أحدا إلا بإذنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية