الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

صفحة جزء
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " روي أنه صلى الله عليه وسلم قال ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة قال : ولا صدقة في خيل ولا في شيء من الماشية عدا الإبل والبقر والغنم بدلالة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . قال المزني : قال قائلون في الإبل والبقر والغنم المستعملة وغير المستعملة ومعلوفة وغير معلوفة سواء فالزكاة فيها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فرض فيها الزكاة وهو قول المدنيين . يقال لهم وبالله التوفيق : وكذلك فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الذهب والورق كما فرضها في الإبل والبقر فزعمتم أن ما استعمل من الذهب والورق فلا زكاة فيه وهي ذهب وورق ، كما أن الماشية إبل وبقر فإذا أزلتم الزكاة عما استعمل من الذهب والورق فأزيلوها عما استعمل من الإبل والبقر ؛ لأن مخرج قول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك واحد " .

قال الماوردي : وهذا كما قال :

أما الرقيق فلا يختلف العلماء أن لا زكاة في أعيانهم إلا أن يكونوا للتجارة فتجب الزكاة في قيمتهم ، أو في الفطر فتجب زكاة الفطر عنهم ، ولهذا موضع . فأما الخيل فلا زكاة فيها بحال كالحمير والبغال ، سواء كانت سائمة أو معلوفة ذكورا أو إناثا ، هذا مذهب الشافعي ، وبه قال من الصحابة عمر ، وعلي ، وعبد الله بن عمر ، وهو مذهب مالك والليث بن سعد ، والأوزاعي والثوري ، وأبي يوسف ومحمد .

وقال أبو حنيفة وزفر : إن كانت معلوفة فلا زكاة فيها كالماشية ، وإن كانت سائمة : فإن كانت ذكورا فلا زكاة فيها ، وإن كانت إناثا أو ذكورا وإناثا ففيها الزكاة ، وربها بالخيار إن شاء أخرج عن كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأخرج ربع عشر القيمة من غير اعتبار نصاب ، احتجاجا برواية جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في كل فرس سائمة دينار ، وليس في المرابطة شيء وبرواية علقمة عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الخيل ثلاث : لرجل أجر ، ولآخر شين ، وعلى آخر وزر ، فأما الذي له الأجر فالذي يمسكها تعففا وتجملا ، فلا ينسى حق الله في ظهورها ورقابها ، ومما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 192 ] قال : خير المال سكة مأبورة ، ومهرة مأمورة وإذا كان ذلك من خيار المال كان وجوبها فيه أولى من وجوبها في شراره ، قالوا : ولأنه ذو أربعة : أهلي يؤكل لحمه فوجب فيه الزكاة كالغنم . قالوا : ولأن الزكاة إنما تجب في الماشية لظهرها ونسلها ، وفي الخيل السائمة هذا المعنى موجود فيها ، فاقتضى أن تجب الزكاة فيها .

ودليلنا رواية عراك بن مالك عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة ، وروى أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق ، وروى عاصم بن ضمرة ، عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عفوت لكم عن صدقة الخيل .

وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا صدقة في فرس ولا عبد .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ليس في الجبهة ولا في النخة ولا في الكسعة صدقة . فالجبهة : الخيل ، والكسعة : الحمير ، فأما النخة فأبو عبيدة يرويها بضم النون وهي الرقيق ، والكسائي يرويها بفتح النون ، وقال : هي البقر العوامل بلغة الحجاز ، وقال الفراء : النخة أن يأخذ المصدق دينارا بعد فراغه من الصدقة وأنشد :

عمي الذي منع الدينار ضاحية دينار نخة كلب وهو مشهود



وروي أن أهل الشام كتبوا إلى عمر فقالوا : قد كثر عندنا الخيل والرقيق فزكه لنا ، فقال : لا آخذ شيئا لم يأخذه صاحباي ، وسأستشير . فاستشارهم فقالوا : حسن ، وعلي عليه السلام ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : لا بأس إن لم تكن جزية راتبة من بعدك ، [ ص: 193 ] فأخذ عمر من كل عبد عشرة دراهم ، ورزقه جريبين ، ومن كل فرس عشرة دراهم ، ورزقه عشرة أجربة شعيرا .

قال أبو إسحاق : فأعطاهم أكثر مما أخذ منهم ، قال أبو إسحاق : ولم تكن جزية ، ثم صار جزية راتبة في زمن الحجاج تؤخذ منهم ولا يعطون .

فالدلالة في هذا الحديث من وجوه :

أحدها : أنهم سألوه ، ولو كانت واجبة لبدأهم .

والثاني : أنه قال : لم يأخذ صاحباي ، ولو كانت واجبة لأخذاها .

والثالث : أنه استشار ، ولو كان نص ما استشار .

والرابع : أن عليا عليه السلام قال : إن أمنت أن لا تكون جزية راتبة فافعل ، ولو وجبت لكانت راتبة .

والخامس : أن عمر أعطاهم في مقابلتها رزقا ، ولو كانت واجبة لم يعطهم شيئا .

ويدل على ذلك من طريق المعنى : أن يقال : كل جنس من الحيوان لا تجب الزكاة في ذكوره إذا انفردت لا تجب في ذكوره وإناثه كالحمير والبغال ، وعكسه المواشي ، ولأنه حيوان يسهم له فشابه الذكور ، ولأنه حيوان لا يضحى به فأشبه الحمير ، ولأنه ذو حافر فشابه الذكور ، ولأنه حيوان لم يجب فيه من جنسه فلم يجب فيه من غير جنسه كالدجاج .

فأما الجواب عن حديث جابر : فرواية غورك السعدي وهو مجهول عند أصحاب الحديث ، فلا يصح الاحتجاج به ، ولو صح لكان الجواب عنه من وجهين استعمالا وترجيحا .

فأما الاستعمال في زكاة التجارة ، ويكون ذكر الدينار على وجه التقريب ، فإن قيل : قد نص على السوم ، والسوم غير مؤثر في زكاة التجارة ، قيل : إنما ذكره والله أعلم ليفرق بينه وبين الغنم ، فلا يظن أن سومها مسقط لزكاة التجارة كما أسقطها من النعم على أحد القولين . وأما الترجيح : فقد عارضه قوله : عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق ، وهو أولى من وجهين : أحدهما : أنه متفق على استعمال بعضه وهو الرقيق ، مختلف في استعمال بعضه وهو الخيل ، وخبرهم مختلف في استعمال جميعه ، فكان خبرنا أولى .

والثاني : أن خبرهم متقدم وخبرنا متأخر ؛ لأن قوله : ( عفوت ) يدل على إيجاب متقدم ، والمتأخر أولى ، وأما حديث ابن مسعود فالجواب عنه قريب من جواب ما تقدم ، أو يحمل [ ص: 194 ] على الجهاد ؛ لأنه قال ولا تنس حق الله في ظهورها ورقابها والزكاة لا تجب في الظهر ، وإنما الجهاد على الظهر ، وأما قوله خير المال سكة مأبورة فالمراد به الإخبار عن فضل الجنس دون إيجاب الزكاة ، وقد لا تجب الزكاة في خيار المال كالمعلوفة ، وتجب في شراره كمراض السائمة .

وأما قياسهم على النعم فالمعنى فيه أن الزكاة واجبة في ذكورها ، فلذلك وجبت في إناثها ، ولما لم تجب الزكاة في ذكور الخيل لم تجب في إناثها ، وأما قولهم : إن زكاة الماشية وجب لظهورها ونسلها فغير صحيح ، وإنما وجبت لدرها ونسلها ، والخيل لا در لها فلم تجب الزكاة فيها . والله أعلم بالصواب .

التالي السابق


الخدمات العلمية