مسألة : قال
الشافعي رضي الله عنه :
فإذا أتى المزدلفة جمع مع الإمام المغرب والعشاء بإقامتين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاهما بها ، ولم يناد في واحدة منهما إلا بإقامة ، ولا يسبح بينهما ولا على إثر واحدة منهما " .
قال
الماوردي : وهذا كما قال ، إذا أتى
المزدلفة نزل بها ، وحدود
مزدلفة من حيث يقضي من مأزمين
عرفة ، وليس المأزمين منها إلى أن يأتي إلى قرب محسر ، وليس القرن منها ، وهكذا يمينا وشمالا من تلك المواطن والقوابل والظواهر والشعاب والسحاء والوادي كله ، وفي تسميتها
مزدلفة قولان :
أحدهما : إنهم يقربون فيها من
منى ، والازدلاف التقريب ، ومنه قوله تعالى :
وأزلفت الجنة للمتقين [ الشعراء : 95 ] ، أي قربت .
والثاني : إن الناس يجتمعون بها ، والاجتماع الازدلاف ، ومنه قوله تعالى :
وأزلفنا ثم الآخرين [ الشعراء : 64 ] ، أي جمعناهم ؛ ولذلك قيل
لمزدلفة جمع ، فإذا نزل
بمزدلفة جمع
[ ص: 176 ] بين المغرب والعشاء ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة المغرب حتى جمعها مع عشاء الآخرة
بمزدلفة كما قدم العصر
بعرفة ، حين صلاها مع الظهر ليتصل له الدعاء ، وقد روى
أسامة بن زيد قال :
لما أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة وأتى مزدلفة قلت : يا رسول الله : الصلاة ، فقال : " الصلاة أمامك ، فسار حتى جاء إلى صخر : في بطن المأزم بين الجبلين في مضيق المأزمين فأناخ راحلته ، وبال من وراء الصخرة ، وجئته بإداوة ماء فتوضأ وضوءا غير كامل ، ثم قام فقلت : يا رسول الله الصلاة ، فقال : " الصلاة أمامك إلى أن نزل جمعا " وفي قوله : وضوءا غير كامل تأويلان :
أحدهما : أنه ترك تكراره ثلاثا .
والثاني : أنه ترك مسنوناته من المضمضة والاستنشاق وتخليل الأصابع ، فإذا ثبت هذا فإن كان الإمام مسافرا قصر وجمع ، وإن كان مكيا مقيما أتم وجمع ، كما قلنا
بعرفة ، فإذا أراد الجمع بينهما فقد قال
أبو حنيفة : يجمع بينهما بإقامة واحدة استدلالا برواية
عبد الله بن يزيد عن
أبي أيوب ، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء
بالمزدلفة بإقامة .
ومذهب
الشافعي في القديم أنه يجمع بينهما بأذان وإقامتين ؛ لرواية
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين ، ولم يسبح بينهما ، واضطجع فبات بها إلى أن طلع الفجر .
ومذهبه في الجديد أنه يجمع بينهما بإقامتين من غير أذان لرواية
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين المغرب والعشاء بإقامتين ، ولم يصل بينهما سجدة ، وكلا الخبرين حجة على
أبي حنيفة .
ورواية
أبي أيوب أنه جمع بينهما بإقامة يعني لكل واحدة منهما ؛ ليعلم أنه لم يؤذن لهما
فلو صلاهما قبل
مزدلفة جامعا بينهما أو مفردا لهما أجزأتاه ولا قضاء عليه ولا فدية ، وقال
أبو حنيفة : إن جمع بينهما قبل
مزدلفة لم يجزه ، وهو قول
جابر بن عبد الله ، وهذا غير صحيح : لأن الجمع بين الظهر والعصر مسنون
بعرفة ، كما أن الجمع بين المغرب والعشاء مسنون
بمزدلفة ، ثم ثبت أن ترك الجمع
بعرفة لا يمنع الإجزاء ، فوجب أن يكون ترك الجمع
بمزدلفة لا يمنع الإجزاء ، وتحرير ذلك قياسا أنهما صلاتان سن الجمع بينهما في إحداهما فوجب أن لا يمنع جوازهما ترك الجمع بينهما بمكانهما كالجمع
بعرفة ؛ ولأن ما كان وقتا لصلاة الفرض في غير النسك كان وقتا لها في النسك قياسا على سائر الأوقات .
فأما قول
الشافعي : " ولا يسبح بينهما " يريد أن لا يتنقل بين صلاتي الجمع ؛ لأن التنقل بينهما يقطع الجمع ، ولا في إثر واحدة منهما أي لا يتنفل قبل المغرب ولا بعد العشاء : لأنه مأمور بالتأهب لمناسكه .